صدقوا أو لا تصدقوا، مهرجان انطلاقة فتح في غزة، شكل ظاهرة تستحق القراءة بتعمق، وشجاعة، وإخلاص، بأكبر قدر من الهدوء، وهذه القراءة الهادئة مطلوبة بإلحاح لكل جوانب واقعنا الفلسطيني، فلنبدأ بهذا المهرجان الظاهرة الذي شارك في حضوره أكثر من مليون شخص وبضع مئات الآلاف، والرقم هنا يدور، في ساحة تم تمهيدها بالحد الأدنى قبل أيام قليلة فقط، وفي يوم جرى الاختلاف عليه بشدة، وهو يوم الجمعة الموافق الرابع من هذا الشهر. حين أصر بعض تيارات فتح أنه يوم غير مناسب، لأنه يوم إجازة، ويوم صلاة، وبدعوى واجتهاد معناه «أن الناس في غزة لهم طقوس خاصة في هذا اليوم تجعلهم يميلون إلى البقاء في بيوتهم» وكان هذا التحليل الخاطئ جدا، يثبت مرة أخرى، هذا القدر الهائل من الانفصام بين بعض المسلمات السطحية وزخم الواقع وتوازن الحياة. يا ترى كم من هذه المسلمات السطحية المنخفضة تحكم حياتنا السياسية؟؟؟

وقد رأينا كيف أن الناس في قطاع غزة قد بدأوا الاحتفال مبكرا، حيث استمروا ثلاثة أيام قبل يوم الجمعة يتدفقون على الساحة، ساحة السرايا سابقا، التي أصبح اسمها ساحة الشهيد ياسر عرفات، بحيث تحولت الساحة إلى موعد مع الفرح، والنزهة، انتشر على جوانبها الباعة الجائلون، وجاءت العائلات بأطفالها وافترشوا الأرض وقد أحضروا أطفالهم معهم، إنها روح الشعب المتوهجة التي تحول الأشياء البسيطة إلى قيامة، وقد أصبح واضحا حتى قبل يوم الجمعة أن السر المشترك، وجوهر المعنى في كل ذلك ذاك هو الحضور، حضور الفلسطينيين أنفسهم إلى هذه الساحة، وأن مجرد حضور هذا الإنسان الفلسطيني منفردا أو مع عائلة إلى الساحة هو الجوهر، والهدف والعنوان الأبرز، وهو خلاصة المسألة.

تخيلوا بالله عليكم، لو أن مليونا ومئتي ألف احتشدوا في ميدان أرقى عاصمة في الدنيا، وفي ظروف تنظيمية ولوجستية تحت الصفر، ومن دون وجود أمني بأي شكل من الأشكال، وبجمهور اشتمل على فئات متعددة، من رجال ونساء طاعنين في السن، إلى أطفال ورضع على صدور أمهاتهم، رجال ونساء، شباب وشابات، أناس موفوري الصحة، وجرحى يمشون على عربات صغيرة، وعكاكيز، أشخاص فاقدي النظر، كيف جاءوا؟ لماذا جاءوا وهم معذورون ولا أحد يعتب عليهم؟ لقد جاءوا يسجلون حضورهم ليس إلا، ويعلنون صورتهم بأنهم فلسطينيون ليس إلا، وأن ما يردد عنهم من إشاعات ليس سوى أوهام غبية ساقطة.

بالله عليكم لو أن هذا الحشد الهائل، بكل التفاصيل التي ذكرناها لكم، وبكل المعطيات التي شرحناها لكم، كان في أرقى عاصمة، ماذا كان سيحدث؟ كم احتكاكا سلبيا، كم مشكلة، كم حادثا عرضيا أو متعمدا؟ لك الحمد يا رب، ها هي غزة ملكة الحب والحزن والغضب.

لم يكن هناك وحش يتربص بالحديقة، الوحش الوهمي مزروع في عقول الفاشلين حتى يبدأوا فشلهم لا أكثر ولا أقل.. وفتح، هذه البشرى الخارقة، وهذه الحركة الجماهيرية العريقة الواسعة، لم يعد يجدي أن تظل محبوسة على قدر أوهام الصغار، الذين يريدون أن يحصلوا على كل شيء على طريقة « الكبونة « لجنة مركزية بنظام الكبونة، مواقع قيادية بنظام الكبونة، هم لا يفعلون شيئا سوى البكاء، والثغاء، التعلق بأهداب واهية، مرة تحت مسمى النظام الداخلي أو تحت مسمى الحقوق التنظيمية، يا إلهي، هل لو أن النظام الداخلي والقوى التنظيمية مصانة بالفعل كنتم ستحصلون على هذه الألقاب التي لا تفعلون لأجل تفعيلها شيئا؟

انتهى مهرجان غزة على خير، وبأجمل صورة، وأبهى انطباع، ورسالته وصلت إلى كل العالم، بأن الرئيس أبو مازن رأس الشرعية الفلسطينية، هو رئيس الجميع ليس فقط بالدستور والقانون، وليس فقط بالتاريخ النضالي بصفته أحد أبرز مؤسسي فتح الثورة الفلسطينية المعاصرة، بل أيضا لأن الشعب الفلسطيني يريد ذلك، بأعلى صوت، وبأرقى مشهد.

انتهى مهرجان غزة الفتحاوي على ألف خير، فهل سنعود بعد أيام إلى نفس اللغة السابقة، وإلى نفس المماحكات المثيرة للتقزز، وإلى نفس الافتعالات لأولئك المنغصين، أم نبدأ بداية جديدة، ووحدة ومصالحة فعلية، وانسجام داخلي؟ ذلك أن مهرجان غزة الفتحاوي ليس إلا مشهدا خارقا في بانوراما واسعة النطاق عنوانها الوصول إلى الدولة.

كل عام وأنتم بخير