لقد جن جنون الإسرائيليين بشكل غير مسبوق، بعد أن قبلت «الجنائية الدولية» طلب دولة فلسطين للانضمام لها، وقد ظهر هذا الجنون على انصع صورة من خلال ردود فعل رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، كذلك وزير خارجيته أفيغدور ليبرمان، اللذين وصلا إلى حد التهديد بتصفية المحكمة الدولية، مع أبو مازن بالطبع، فيما كان رد فعل واشنطن، مشابها لرد الفعل الإسرائيلي، حيث وصفت الخارجية الأميركية المحكمة الدولية بأوصاف لا تليق بدولة عظمى، تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن، وتقود العالم منذ نحو ربع قرن.
مجرد أن اتخذت «الجنائية الدولية» قرارا بفتح تحقيق أولي لفحص إمكانية أن تكون إسرائيل قد ارتكبت جرائم حرب في غزة، حتى ثارت واشنطن قبل تل أبيب، فقد سارعت الخارجية الأميركية لإصدار بيان أدانت فيه القرار الأممي واصفة إياه بالتراجيديا الساخرة!.
بيان الخارجية الأميركية لم يكتف بهذا، بل تابع قائلا، إن الولايات المتحدة ستواصل العمل ضد أي عمل ضد إسرائيل عبر القضاء الدولي.
أما ردود الفعل الإسرائيلية فقد كانت أشد غضبا، خاصة من قبل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي سارع على الفور ببدء جملة من الاتصالات الدولية مع عواصم العالم، من واشنطن إلى طوكيو، مرورا بإتاوة، سيدني، برلين، لندن، يطالب تلك الدول بوصفها أعضاء في محكمة الجنايات الدولية بمنع فتح تحقيق ضد إسرائيل في عدوانها الأخير على قطاع غزة.
من الواضح أن رئيس الحكومة الإسرائيلية كان يعرف إلى أين يمكن أن تؤدي به الأمور مع الجانب الفلسطيني، وكان عليه أن يعرف أيضا أن هذا ما جنته يداه، فهو من جهة يغلق كل أبواب الحل أمام الفلسطينيين، ومن جانب آخر وكمثل «ثور» هائج، يقوم بمواصلة الهجوم، بل والحرب على الفلسطينيين في كل مكان، في القدس وغزة وكل مناطق الضفة الغربية، ورغم انه على تماس مباشر مع المركز السياسي الإسرائيلي المقرر، منذ أيام اسحق شامير، إلا أنه ربما بسبب من تحولات المجتمع الإسرائيلي العميقة والمتتالية باتجاه أقصى اليمين خلال العقدين الماضيين، ورغم كل التحولات الجارية في المنطقة، وحتى في عالم ما بعد الحرب الباردة، إلا أن الرجل ما زال يتمتع بالمراوغة والتردد السياسي، ولم يقترب من مكانة «القائد التاريخي» الذي يمكن أن يقود بلاده إلى حل تاريخي، كما فعل اسحق رابين وحتى مناحيم بيغين.
ما زال بنيامين نتنياهو، السياسي اليميني الإسرائيلي الذي شهد على محاولة إسرائيل «التحرر» من سطوة الأحزاب الصغيرة وتحكمها خلال عقد تسعينيات القرن الماضي في السياسة الإسرائيلية، بسبب ما كان من «توازن للقوة» بين العمل والليكود، ومن ثم إقرار انتخاب رئيس الحكومة مباشرة من قبل الناخب الإسرائيلي، كحل لتلك المعضلة، تلك الطريقة التي كان نتنياهو أول من فاز بها، بعد مقتل اسحق رابين، ثم وحيث انه يشهد منذ نحو دورتين انتخابيتين، ظهور ما يمكنه تسميته بسطوة الحزب الثالث، منذ انشأ ارئيل شارون «كاديما» ومنذ أن ظهر «إسرائيل بيتنا» الذي تحكم بنتنياهو في الدورة السابقة، إلى أن تكرر الأمر ذاته في الانتخابات الماضية، حين تحكم يائير لابيد من جهة ونفتالي بينيت من جهة ثانية، الأول بمنع نتنياهو الإطاحة بتسيفي ليفني، خلال مفاوضات التسعة أشهر مع الفلسطينيين، والثاني بفرض منع نتنياهو من إبداء أي مرونة تفاوضية، أي باختصار فرض الحسابات الانتخابية الداخلية على رئيس الحكومة، وصولا إلى تبكير موعد انتخابات «الكنيست» العشرين.
من الواضح ان احد أهم أسباب الحنق الذي يبديه نتنياهو على قرار المحكمة الدولية هو انه ذاهب إلى انتخابات صعبة هذه المرة، بعد أن عادت حظوظ «العمل» في الفوز موازية لحظوظ «الليكود»، كما كان حاله مع «كاديما» في الانتخابات قبل الماضية، أي أن الانتخابات القادمة لن تكون سهلة كما كان حال السابقة، وحيث انه خارج لتوه من حرب على غزة، وان أقصى ما يمكنه فعله لكسب ود الناخبين هو السطو على أموال المقاصة الفلسطينية، في حين دخل منافسوه مزادا علنيا في رفع سقف التطرف على اليمين، إن كان بإعلان بينيت رفض حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، أو بإعلان ليبرمان خطته بالتطهير العرقي، وإقامة الدولة اليهودية على أساس تبادل المستوطنين «بعرب إسرائيل»، لذا فإن نتنياهو يشعر بالعجز، وبأنه بات محشورا في زاوية صعبة، لم يعد بإمكانه أن يحتفظ بموقعه باعتباره، نقطة تلاق للأطراف الداخلية.
الغريب في الأمر هو ما ينجم عن رد الفعل الأميركي والإسرائيلي تجاه قرار المحكمة، حيث إن المجرمين فقط هم من يخشون القضاء، وان الخارجين عن القانون هم من يناصبون القضاء العداء، فما بالنا أذا كان الحديث يدور عن قضاء دولي، وعن محكمة تابعة للأمم المتحدة؟!
كل هذا يحدث لأن إسرائيل بيمينها بالذات، لم تدرك بعد ان عالم ما بعد الحرب الباردة قد انتهى، وان قيمتها كرأس حربة استعمارية في المنطقة لم يعد يقنع أحدا باستثناء الأميركيين، الذين بدورهم لن يكونوا قادرين على الدفاع إلى الأبد عن إسرائيل كدولة احتلال، ترفض أن تضع حدا له، إلى ما شاء لها نتنياهو، الذي لا يبدو الآن في مواجهة مجرد اتخاذ قرار بفتح تحقيق أولي، أكثر من كونه مجرما ارتكب جريمة هو يعرف جيدا أنه مذنب فيها، لذا فإنه لا يخشى القضاء فقط، بل بات يهدد، كما لو كان زعيما للمافيا أو احد قادة عصابات أو جماعات الإرهاب الدولي، بأن يفكك المحكمة ذاتها، لعل عالما بلا قضاء ولا قانون دولي يكون هو العالم المثالي لدولة مثل إسرائيل ولرئيس حكومة مثل بنيامين نتنياهو!.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها