من المجحف أن تتعرض النشاطات الخاصة بالذكرى العاشرة لرحيل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، إلى ما تعرضت له، وهي كانت واحدة من المؤشرات الإيجابية على تطور العلاقة والتفاهم بين حركتي فتح وحماس رغم كل التصريحات المتوترة، وتبادل الاتهامات بين الطرفين قبل حلول هذه الذكرى. في زمانه اختلف الكثيرون مع ياسر عرفات، من جورج حبش، ونايف حواتمة، وأحمد جبريل، وحتى عدد من صقور اللجنة المركزية لحركة فتح، لكن أحداً لم يختلف على الرجل. هؤلاء القادة الكبار لم يكونوا خجلين من أن يصرحوا بهذه الحقيقة، فلقد كان الرجل بكل ما له وما عليه من صفات وقدرات، زعيماً لا يضاهى للشعب الفلسطيني وأحد أبطال التحرر الوطني في العالم، رغم أن الأيادي المجرمة حالت دون أن يحقق حلمه وهو على قيد الحياة.

لا تستحق ذكرى الشهيد عرفات كما أي شهيد كبيراً كان أم صغيراً أن يمنع بالقوة، مناصروه، وكل الشعب يناصرونه، من إحياء ذكراه التي ربما كان من أهم مآثرها، تمسكه بالوحدة الوطنية.

الإساءة والضرر كبير على الشعب أولاً، وعلى كل وطني غيور سواء أكان حمساوياً أو فتحاوياً أو جبهاوياً، والحقيقة أنه لم يكن لدينا فائض تفاؤل بتجاوز الانقسام حتى نحتمل مثل هذه الانتكاسة، التي يطرب لها العدو الإسرائيلي فقط.

تملي هذه الحقيقية على كل الأطراف سواء من هم في موقع الاتهام أو في موقع من يوجهون الاتهام واللوم، وما بينهما، أن يتدارك الجميع هذه المصيبة، بتحكيم لغة العقل، وتوخي المصلحة الوطنية، والاهتمام الجدي بالتحقيق، والكشف عن الفاعلين بأقصى سرعة وتقديمهم للعدالة.

في الذكرى العاشرة لرحيل هذا الزعيم الكبير، ينهض كما في كل عام السؤال الذي يجد له جواباً عند الشعب، ولا يجد له جواباً عن المستويات السياسية الرسمية، وهو من الذي قتل عرفات، وكيف قتل؟

إذا كانت الجماهير الفلسطينية هي من يحتاج إلى مثل هذا الجواب فإنها قد حصلت عليه منذ اليوم الأول لإعلان وفاته، إذ ليس هناك فلسطيني واحد يشك في أنه قتل بقرار إسرائيلي، وان إسرائيل هي التي تتحمل كل المسؤولية عن ذلك.

لا يحتاج الشعب للإجابة عن هذا السؤال إلى قرائن، أو براهين ولا ينتظر نتائج المختبرات العلمية، ولا توقعات وقراءات العرافين، فالاحتلال الذي قتل أحمد ياسين وفتحي الشقاقي وأبو علي مصطفى وأبو جهاد وأبو إياد والرنتيسي والعشرات من القادة، هو وحده صاحب المصلحة واليد في إنهاء حياة زعيم الشعب الفلسطيني.

إذا كانت إسرائيل مستعدة لاستخدام الطائرات الحربية المدمرة، والطائرات المروحية، لقتل زعماء وقادة الشعب الفلسطيني، جهاراً نهاراً ولا تخفي مسؤوليتها عن ذلك، دون أن تنتظر عقاباً أو حتى تأنيباً قوياً من قبل حلفاء إسرائيل الدوليين فكيف بها لا تقوم بقتل عرفات، بوسائل خبيثة، طالما أن لديه من الحصانة ما يمنعها من استخدام الوسائل الفتاكة ذاتها والتي استخدمتها ضد القادة الآخرين. أما إذا كان سؤال من قتل عرفات وكيف يتصل بمتهمين آخرين مشتركين في ارتكاب الجريمة إلى جانب إسرائيل فإننا هنا نرجح أن الولايات المتحدة، ودول غربية أخرى وربما بعض الرؤساء العرب، كلهم إما أعطوا موافقتهم على إنهاء الحياة السياسية والوجودية لعرفات أو انهم يعلمون ومتواطئون.

كان من المقدر أن تتعرض حياة عرفات للخطر، منذ أن رفض العروض السخيفة التي تقدم بها كل من ايهود باراك رئيس وزراء إسرائيل آنذاك وبيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة، خلال مفاوضات كامب ديفيد في تموز من العام 2000. لم يكن عرفات قد رفض بقوة وتحدى الإرادة الأميركية الإسرائلية بل انه عاد إلى فلسطين، ليتزعم ويشرف على انتفاضة شعبية عارمة، للتأكيد بأن الشعب الفلسطيني كله يرفض الاستسلام، وانه يقف خلف قيادته الوطنية، وحين نجحت إسرائيل في عسكرة الانتفاضة، اشرف عرفات على تشكيل وتسليح كتائب شهداء الأقصى.

كان عرفات يريد أن تصل رسالته إلى كل العالم، بأنه ليس مضطراً للالتزام بخيار المفاوضات كخيار وحيد لتحقيق الحقوق الوطنية لشعبه، وكان يريد التأكيد على أن الشعب الفلسطيني مستعد لأن يدفع المزيد ثمناً لحريته واستقلاله. لهذا تتواطأ الدول القادرة على الكشف عن الحقيقة بما في ذلك تلك التي تناصر الشعب الفلسطيني نضاله وحقوقه، فمثل هذا الملف يصلح للمقايضة والبيع والشراء في سوق المصالح. أما إذا كان الهدف من السؤال هو تجهيز ملف باتهام إسرائيل بارتكاب هذه الجريمة بحق الشعب الفلسطيني وبحق الإنسانية والأعراف الدولية فإن لدى الفلسطينيين عشرات الملفات التي تنطوي على اتهامات جدية لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب، تسوقها إلى قفص الاتهام ولكن حتى هذه اللحظة، لم تجر عملية تفعيل هذه الملفات.

على كل حال لن يغير سلوك الآخرين من قناعة الشعب الفلسطيني، أما المعلومات والبراهين في مثل هذه القضايا فإنها تظل طي الكتمان لسنوات وعقود طويلة، وفي تاريخنا ملفات مشابهة للرئيس الجزائري هواري بومدين، وللقائد الفلسطيني وديع حداد.