خاص - مجلة القدس الخبراء في العلم العسكري يحددون معنى النصر والهزيمة بحركة الميدان هجوماً أو تراجعاً. أما أعمال القصف المتبادل- وإن طال أمدها- فهي ليست أكثر من معركة في سياق حرب، أو هي استطلاع بالنار- عسكرياً أو سياسياً.

معركة غزة الأخيرة بدأت وانتهت بشعار الهدنة، أي أن المعركة الصاروخية كلها جرت بالتوازي مع طاولة مفاوضات مستمرة في القاهرة، ومن خلال الثقة التي منحها نتنياهو لشريكه "وصديقه الوفي" الرئيس  محمد مرسي.

والمتابع لمسار المعركة لفته حصر شعاراتها بغزة، وتحديدها بعنوانين مركزيين: وقف ملاحقة مسؤولي حماس وفك الحصار عن القطاع.

المتابع نفسه يرى أن عدداً من المسؤولين الإسرائيليين، ومنذ سنتين وأكثر دأبوا على الحديث عن منح غزة ما تريد، شرط إنهاء حالة الصراع معها، خاصة أن سلطتها تتمتع بالجدية وقوة السيطرة على القوى التي قد تهدد أمن إسرائيل.

الخطير فيما سبق تحويل الحالة الغزية برمتها إلى مشكلة تقنية حول الإجراءات الأمنية وكيفية إدارة العلاقة المستقبلية بين غزة حماس وسلطات الاحتلال، وبالتالي عزل هذا الجزء من فلسطين عن الجزء الآخر في الضفة الغربية.

يعزز هذا الخطر الآن الفصل في الأجندات الفلسطينية وتحديد أولويات إدارة الصراع حول مصير القضية الفلسطينية برمته. فالتشويش على قرار الرئيس محمود عباس بالتوجه إلى الأمم المتحدة لاستصدار قرار من جمعيتها العمومية أواخر الشهر الجاري أدرك حده الأقصى.

فغلاة الثقافة المقاومجية يصرحون علانية بلا أهمية الخطوة، وأن لا خيار يلزم الاحتلال على الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني سوى المقاومة المسلحة. وبهذه الحجة يحاولون إسقاط قرار الرئيس عباس من خلال كونه مقاومة بالدبلوماسية إلى مجرد خطوة هامشية لا تفيد القضية الفلسطينية بشيء.

القيادة الفلسطينية، وبالطبع من خلال موقع الرئاسة ترى أن الاحتلال ماضٍ بسياسة تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، وعليه لم يتوان عن مصادرة الأراضي المفترض قيام الدولة عليها. لذلك فإن استصدار قرار يعرِّف فلسطين كدولة تحت الاحتلال يفرغ الأمر الواقع الاستيطاني من تماديه في السلب والقضم للأرض، ويخضع السلطات الإسرائيلية للمساءلة القانونية جراء ذلك.

وإذا كان القرار الأممي 242 قد تم تعريفه بلغة ملتبسة تمنح الاحتلال حق تقدير ما هو متنازع عليه من "أراضٍ" محتلة في الضفة، فإن القرار الأممي الجديد لن يكون أقل من تحديد كامل الضفة الغربية والقدس- إضافة إلى غزة بصفتها أراضي الدولة الفلسطينية المحتلة.

ولولا استشعار قادة الاحتلال خطورة الخطوة التي شرعت بها قيادة الشعب الفلسطيني لما أخذت تهديدات سلطات الاحتلال حد الذروة، ولما وجهت التهديدات الأميركية بوقف المساعدات التي تمنح للسلطة الفلسطينية، ولما ضغط القادة الأوروبيون باتجاه التراجع عن الخطوة أو تأجيلها إلى مرحلة لاحقة. وللأسف الشديد لم تستثنِ الضغوط الموجة للسلطة الفلسطينية إجراءات دول عربية خضعت للإملاءات الأميركية لكي تطبق عليها دائرة الحصار.

ولكي نستوعب سبب العدوان على غزة يجب الإقلاع عن بعض مسلمات السياسة، كاتهام نتنياهو بمحاولة حشر الرئيس الأميركي في خانة الخيارات الإسرائيلية، لأن مسار الأمور اتخذ اتجاهاً آخر، حيث الدبلوماسية الأميركية هذه المرة برهنت عن دور قيادي في السيناريو والإخراج. كيف ولماذا؟

في هذه النقطة يبدأ الجواب من الساحة السورية قبل غيرها. فالمعارضة توحدت بقدرة  قادر، بعد أن كانت شتات معارضات وأطيافاً. الكثير من الدول بدأت الاعتراف بها  كممثل شرعي ووحيد للشعب السوري.

ميدانياً على الأرض، بدأت قوة النظام بالتراجع والانكفاء، لدرجة أن المواجهات لم تعد تستثني منطقة داخل سوريا، مما يعني بدء مرحلة محاصرة النظام وبالتالي إزاحته.

ولكي تتضح الملامح هزيمة "قوى الممانعة" في المنطقة، كان من الواجب إعادة حركة حماس إلى موقعها الأصلي- حيث يكون الأخوان المسلمون- والدليل على ذلك تنسيب "الانتصار" لفضل الربيع العربي حسب قول السيد إسماعيل هنية، فيما الشكر للدعم الإيراني لا يعني أكثر من تحسين شروط الانتساب الجديد لمنظومة ما بعد الربيع العربي.

فتطويق غزة بثلاثي وزراء الخارجية التركي القطري والمصري لم يكن تفصيلاً عابراً، ومسارعة رئيس الوزراء المصري قبله لم يكن تفصيلاً، واختتام الوفود بوزراء الخارجية العرب، الذين لم يقدموا شيئاً سوى العزاء والكلام الوجداني المنمق، لم  يكن تفصيلاً، إنما وضع غزة في العهدة العربية الجديدة- وتحديداً في عهدة القيادة المصرية وفق آلية هدنة طويلة الأمد يرافقها تطمينات أمنية ورفع للحصار بصيغ يتم ترتيبها وجدولتها.

الهرولة العربية- التركية إلى القطع حملت عنوانين لا ثالث لهما:

1- تنشيط الدبلوماسية للتوصل السريع إلى الهدنة العتيدة، من خلال إشعار سلطات الاحتلال بأن سلطة غزة باتت في المعسكر المناهض لقوى الممانعة في المنطقة وإنها قدمت رسمياً أوراق اعتمادها السياسية بالخروج النهائي من دمشق، وبمباركة الربيع العربي الذي أطاح أنظمة ويكاد يجهز على أخرى، والأهم أن القيادة المصرية الجديدة أصبحت الراعية للمفاوضات من جهة ومن جهة ثانية صار بإمكانها تحديد السقف الذي تتحرك تحته حركة حماس.

2- حصر المعركة لجهة الوقت والمدى والخسائر، بحيث لا تطغى العمليات العسكرية في غزة على الاهتمام الإقليمي والدولي بما يجري في سوريا، ومنعاً لإشعار النظام هناك بقدرته على تصعيد أعماله العسكرية ضد المعارضة أو كسب الوقت الذي يمكنه من إعادة ترميم صفوفه التي بدأت بالتعب والضعف معاً.

لكن العجيب في الأمر هو ذلك التجاهل المريب من قبل القادة العرب ومعهم وسائل إعلامهم التي تقيم الدنيا ولا تقعدها على الجبهة السورية، وعلى جبهة غزة أيضاً، فيما تتجاهل وبشكل شبه كامل قرار القيادة الفلسطينية بالذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولا تشير من قريب أو بعيد إلى التهديدات الخطيرة التي صدرت عن إدارة أوباما وعن لسان وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون.

 

لماذا أعرض نتنياهو عن إشراك القوات البرية؟

اكتشف القادة الإسرائيليون هشاشة قوة جيشهم البرية خلال عدوان تموز 2006 على لبنان. إثر ذلك عمدوا إلى إعادة تأهيله وبث ما استطاعوا فيه من قوة واستعداد، مشركين إياه في معركة أشبه بمناورة في العام 2008 في عملية الرصاص المصبوب على غزة. الخسائر الكبيرة في الأرواح التي مني بها شعب غزة نتجت عن الاستعمال المكثف للطيران الحربي والمدفعية الثقيلة، دون أن يمنح العدوان شهادة تقدير لاستعادة ذلك الجيش عافيته. ورغم التدريبات والمناورات الأوسع والأكثف في تاريخ إسرائيل، إلا أن  ال 75 ألف جندي احتياط الذين تمَّ استدعاؤهم لم يُشرَكوا  في العدوان الأخير.

المطلعون على المشهد  الإسرائيلي الآن أشاروا إلى أكثر من سبب لذلك. فمن جهة لا يريد نتنياهو الذهاب بعيداً في معركة غير محسومة النتائج قد تسفر عن مفاجآت هو بالغنى عنها في الوقت الذي يسبق الانتخابات البرلمانية في شباط القادم.

من جهة ثانية حاول إشراك الدبلوماسية إلى جانب العدوان العسكري، فمتن علاقته بالعهد المصري الأخواني، وجره إلى القبول برعاية وقف النار والمفاوضات على شروط الهدنة في قطاع غزة، والأهم حمله "أمانة" السهر على الحدود لتأمين عدم تهريب السلاح ووقف عمليات التسلل من سيناء إلى جنوب "إسرائيل". والذي سمعناه علانية إثر وقف النار عن انتشار قوى حماس الأمنية على الحدود مع إسرائيل لتطبيق الوقف الشامل للنار دليل جدية في حاجة حماس له بعد أن ضمنت رعاية عربية وإسلامية ورممَّت- ولو جزئياً- ما فقدته من شعبية وثقة بسياستها غير الواضحة المعالم.

وعلى الرغم من نتائج الاستطلاعات الإسرائيلية المعاكسة لقرارات رئيس الوزراء الإسرائيلي في إدارة العدوان على غزة، إلاّ أن ذلك لن يصيب طموحاته بإعادة انتخابه لولاية جديدة أو ينتقص منها بسبب حالة التطرف الشاملة التي تصيب المجتمع الإسرائيلي، ولأن  إسرائيل قد استهلكت قادتها التاريخيين منذ الغيبوبة التي أطاحت بجنرال الحرب الأشهر أرييل شارون.

خارطة الأحزاب المعارضة لائتلاف نتنياهو لا تملك أية آمال تؤهلها لخلافته، خاصة حزبي العمل وكديما.

لكن النقطة الأهم التي ترتكز إليها سياسة نتنياهو في المرحلة التي تسبق الانتخابات الإسرائيلية الذهاب أبعد من وقف هش للنار، فالهدنة الطويلة الأمد والمتداولة في أذهان قيادة حماس- ورقة أحمد يوسف- تثير شهية نتنياهو، ولو نجحت مفاوضات القاهرة بهذا الشأن يكون حقق هدفاً يؤهله حصاد زيادة أكيدة وحاسمة في انتخابات شباط القادم.

يبدو أن  جيش الاحتلال وحماس كانا بحاجة لاكتشاف قدراتهما الميدانية والسياسية.  فنتنياهو استطلع بالنار فعالية القبة الحديدية وقدرتها على منع صواريخ المقاومة من الوصول إلى أهدافها. وحماس كذلك استطلعت مكانتها في معادلة الواقع الجديد.

نتنياهو استطلع أحوال العرب والإسلام السياسي في ذروة مجده وقوته. وحماس أرادت ترميم صورتها التي هشمها القمع والفساد والتخلي عن العمل المقاوم.. بالطبع هناك أسباب أخرى تتقاطع بينهما.. فلسطين في الأمم المتحدة، فيما وللأسف غابت القضية عن مسرح معركة غزة.

شروط وقف النار التي تليها مفاوضات الهدنة بين "إسرائيل وغزة" لا تخصُّ القطاع حصراً، بل تعبر عن مصالح قيادة حماس الناشئة خلال الفترة التي مارست سلطتها على جزء من الأراضي الفلسطينية.

الحقيقة التي تسطع بين غبار الواقع الحالي تتلخصُ في كون الضفة الغربية والقدس تمثلان ذروة الشهوة الصهيونية على الاحتلال والعدوان، وبذات القدر تمثلان العمق الكياني للهوية الوطنية الفلسطينية في سعيها للحرية والاستقلال.