خاص - مجلة القدس في 14/11/2012 شنت اسرائيل عملية "عمود السحاب"على قطاع غزة، فاغتالت المناضل أحمد الحعبري، وأصابت نحو 1400 هدف، ودمرت عدداً غير محدد من المباني العامة، وقتلت 163 فلسطينياً وجرحت نحو 1400. ومع ذلك ظهرت اسرائيل خلال اسبوع كامل من الحرب كأنها غير قادرة الا على التدمير والقتل، ولا تمتلك أي غاية سياسية واضحة. ولعل ذلك كان مظهراً من مظاهر الارتباك والاضطراب اللذين أصابا "العقل" السياسي الاسرائيلي والعقل الأمني الاسرائيلي معاً جراء المفاجأة القتالية التي تمثلت بصواريخ "فجر – 5" التي يصل مداها الى قرابة ثمانين كيلومتراً وعبارة "عمود السحاب" تعبير توراتي ورد في سفر الخروج (الاصحاح 13، الآيتان 21و22) على النحو التالي: "كان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق". ويبدو ان الرب امتنع عن هداية الاسرائيليين، فجاءت النتائج خلافاً لإرادتهم.
أرادت اسرائيل في عمليتها أن تحقق مجموعة من الأهداف المعلنة مثل اعادة تحفيز قدرة الردع للجيش الاسرائيلي، وتدمير مخزون القوة الصاروخية للفصائل المقاتلة، واختبار فاعلية القبة الحديدية، ثم اختبار الموقف السياسي لمصر. وكان هناك هدف خفي غير معلن هو القول للرئيس الاميركي أوباما أن بينامين نتنياهو ليس ضعيفاً، وأن 82% من الاسرائيليين يؤيدونه (هكذا كانت النسبة قبل العملية)، وأن من الأفضل لأوباما عدم ممارسة الضغوط على نتنياهو جراء وقوفه الى جانب ميت رومني في الانتخابات الرئاسية الاميركية. كما كان هناك هدف إضافي هو السعي من خلال هذه العملية الى الحصول في الانتخابات النيابية التي ستجري في 22/1/2013 على رصيد كبير تتيح لنتنياهو مواجهة أي ضغط أميركي محتمل. غير أن النتائج جاءت على خلاف ما خطط له الثلاثي نتنياهو – باراك – ليبرمان. أما " الجائزة" الوحيدة التي حصلت عليها اسرائيل فكانت اغتيال أحمد الجعبري، علاوة على التأكد من صحة معلوماتها الاستخبارية في شأن المواقع الفلسطينية.
اليمين سيكسب
لم يذكر نتنياهو كلمة "نصر" حين أعلن موافقته على وقف إطلاق النار، ولم يستطع أن يُنكر أن صواريخ المقاومة الفلسطينية هددت أمن الاسرائيليين الى مسافات بعيدة، وأن الجيش الاسرائيلي أعاد حساباته في شأن احتمال انجراره الى عملية برية واسعة، وأن الفلسطينيين كسبوا بعض النقاط في هذه المعركة مثل وقف الاغتيالات،وتوسيع المدى البحري للصيادين في غزة، والسماح بعودة المواطنين الفلسطينيين الى استعمال أراضيهم المحاذية للشريط الشائك. ومع ذلك فإن اليمين الاسرائيلي سيكسب الجولة الانتخابية المقبلة بالتأكيد، لأن المجتمع الاسرائيلي، في معظمه، ينجرف بقوة نحو التعصب والكراهية. وحتى لو انخفض نصيب الليكود في مقاعد الكنيست الجديد، إلا أن هذا الانخفاض لن يذهب الى أحزاب اليسار، بل الى أحزاب اليمين كحزب المتدينين وحليفه حزب المفدال، الأمر الذي يعني أن عدم النصر الاسرائيلي في عملية "عمود السحاب" لن يغير المعادلة السياسية في اسرائيل على الاطلاق. أما في شأن الاتفاق على وقف النار فهو مجرد اتفاق عسكري لا سياسي، أي أنه لا يغير كثيراً في المعادلة الأمنية السابقة ولا سيما معادلة الأمن والمعابر، بل ربما يحسنها الى حد ما. لكن هذا الاتفاق العسكري، بحسب منطوق بنوده، سيكون له أثر سياسي بدأت عقابيله تلوح في سماء غزة منذ الآن.
فلسطين واحدة أم فلسطينان؟
صحيح ان اتفاق وقف النار بين حماس واسرائيل تم التوصل اليه برعاية أميركية ومصرية، إلا أن ايران كانت الشبح الحاضر وغير المرئي في الوقت نفسه. والصحيح أيضاً أن السلاح المستخدم، وحتى لو كان ايرانيا، وهو كذلك بالفعل، إلا أن المعركة ليست صناعة ايرانية بل فلسطينية، بينما الاتفاق هو صناعة أميركية – مصرية اسرائيلية حمساوية. لقد التزمت مصر مكافحة إدخال السلاح الى قطاع غزة، وهذه مسألة سيكون لها أثر سلبي في ما بعد لدى الفصائل المقرَّبة من ايران مثل حركة الجهاد الاسلامي. وهذا الاتفاق جعل من مصر مرجعية في شأن اي اختلاف في تفسير بنود الاتفاق أو خرقها، أي انه حمّلها مسؤولية تنفيذه بالكامل على الجبهة الفلسطينية. وهذه المسؤولية ربما تؤدي في المستقبل الى تباينات خطرة مع الفصائل الفلسطينية المقاتلة في غزة. وقد كان مشهداً غير مسبوق على الاطلاق: الاخوان المسلمون في مصر صاروا وسطاء (ثم شركاء) بين اسرائيل وحماس، وهذا هو المشهد السياسي الجديد الذي نجم عن اتفاق عسكري تقليدي.
إن "توقيع" اتفاق عسكري وأمني بغطاء مصري بين حماس واسرائيل ربما يغير المشهد الفلسطيني فعلاً. فحماس باتت لاعباً سياسياً ذات عمق مصري جدي هذه المرة. ويُخشى أن تتطور فلسطينان في الحياة السياسية العربية واحدة في غزة قد تتحول، بالدعم الاخواني المصري والقطري والتونسي والسعودي، الى عنوان جديد للقضية الفلسطينية، وثانية في رام الله لا تتمتع بأي دعم الا من شعبها. وهذا الأمر لخطير من شأنه أن ينتقص من المكانة التمثيلية للسلطة الوطنية الفلسطينية ولمنظمة التحرير الفلسطينية معاً.
كثيرون يريدون أن يشطروا قضية فلسطين الى شطرين: إما مقاومة أو تفاوض. هذه معادلة فاسدة، وليست غزة هي العنوان الوحيد للمقاومة، مثلما أن رام الله هي مقاومة الشعب الفلسطيني كله، والتفاوض شأن سياسي يتكامل مع المقاومة. هذه هي القاعدة الذهبية التي رسخها ياسر عرفات، والتي تقول: فاوض وقاتل، أو قاتل وفاوض بحسب الاحوال. أكثر ما نخشاه هو أن يصبح قطاع غزة مجرد امتداد لمصر، بينما هو جزء من فلسطين، ويجب أن يكون ارتباطه العضوي بالضفة الغربية، إدارة وقضية ومستقبلاً، أما اربتاطه الجغرافي بمصر فيأتي في المرتبة الثانية. وهذه الخشية ليست مجرد أوهام لأن بعض الاصوات الفلسطينية أشارت بجلاء الى ان قضية غزة باتت قضية اخوانية (اخوان غزة – حماس ومعهم اخوان مصر)، ولتكن قضية السلطة الفلسطينية مقصورة على رام الله!!. إن أفضل رد على هذه الاشارات الفاسدة هو التحام غزة والضفة مجدداً في كيان سياسي واحد له قيادة سياسية واحدة او موحدة، وخطة سياسية مشتركة. ولا يمكن السير خطوة واحدة نحو هذا الأمل قبل انجاز المصالحة الفلسطينية انجازاً كاملاً بحيث لا يأتي التحامها مثل "لِحَام" المعادن الهشة الذي يصبح انفكاكه سريعاً، لدى أول طرقة.
اتفاق وقف النار في غزة يمكن تحصينه بالوحدة الفلسطينية العضوية، أي بإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة والتخلي عن المواقع السلطوية العابرة التي تكرست في قطاع غزة بعد انقلاب 2006 ذلك كله لمصلحة فلسطين القضية والشعب لا لمصلحة هذا الطرف او ذاك ومن دون هذا الاطار الحامي فإن هذا الاتفاق سيُمسي اتفاقاً على تأجيل اطلاق النار. فاستعدوا لحرب جديدة إذاً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها