في ذلك الزمن الموغل في الظلم والبشاعة زمن النكبة, حين انهدم الكيان وذبحت الأرض أشلاء وتبعثرت الهوية, وفقدنا كل شيء، حتى أسماؤنا التي ولدنا بها فقدناها, وتحولنا من شعب حاضر في المكان والزمان إلى لاجئين, تقودنا دروب الوحشة إلى شتاتها الذي بلا ملامح, وتمتصنا طوابيرنا الحزينة بحيث لم يبق لنا إلا ذاكرتنا المحرمة التي كان يطلب منا أن نناصبها العداء جهارا حتى لا نلقى العقاب الأشد.
في ذلك الزمن الموغل في القسوة وعربدة القوة وديانة التواطؤ والأوهام والخرافات, ارسلك الله لنا هداية وإلهاما, واحدا منا, تكابد من أجل ان تعيش ومن أجل ان تتعلم, وتكابد من اجل ان يعترف الأشقاء والغرباء الأصدقاء والأعداء كي يعترفوا بك كما انت, كما خلقك الله فلسطينيا, فقد شطبوا اسمك من السجل, وشطبوا اسمك من الخارطة المتداولة, حتى ان انسابك العربية اتفقوا فيما بينهم ان يسلبوا منك حصتك, وان ينكروا عليك حقك, وان يتركوك هناك خارج حالة اليقين, هناك حيث لا حق لك ولا صوت لك ولا شيء لك, ينادي عليك فقط حين يلصقون بك التهمة, وحين يضرب بك المثل الأسود،وحين يسلخون جلدك ليصبح قناعا.
نتذكر الآن هذه الموهبة الخارقة في القدرة على البقاء, وفي القدرة على الحضور, فقد جاء ياسر عرفات من بعد فاجعة القدس حين استشهد عبد القادر الحسيني وكان الحاج امين الحسيني قد اصبح شخصا تلفظه المنافي, وكانت فلسطين قد اصبحت اسرائيل, وكانت غزة قد اصبحت مرمية هناك وراء السياج, وكانت المنافي تؤهلك للنسيان, جئت يا ياسر عرفات لتبحث في الشقوق عن مكان, وبين شعل اللهب عن مكان وبين المستحيلات عن مكان, فكانت فتح وكانت الثورة المعاصرة, وكانت فلسطين حاضر في الغياب مشتبكة في زمن الاستسلام ذاكرة متوهجة في النسيان، نحلم مع ان النكسة جاءت بعد النكبة لتحرم علينا ان يكون لنا ذاكرة.
في الذكرى العاشرة لغيابك المفعم في الحضور والاسئلة الملحة والخيارات التي لا اصعب منها من غير الممكن ان نقع من جديد ضحية الجدل الشخصي القائم الان في هذا الوطن العربي الذي تتعارك فيه كل مسلماتنا المسكوت عنها, فها نحن نكتشف رغما عنا ما كنا نود اخفاءه وعدم الاعتراف به, نكتشف صحراء شاسعة من الاستلاب, ومن فظاعة الحالة الثأرية التي تشتعل فينا ضد بعضنا, وأن كل ما تظاهرنا به من حضارة مستوردة من الآخر وليست سوى قشور تافهة تتساقط بلا معنى, وانه لا احد للقدس إلا نحن, ولا حماة للاقصى سوانا, ولا ابناء لفلسطين غيرنا الذين جئنا من نطفتها, وما عدا ذلك فكله وهم وسراب وأقاويل خادعة !!!وعرفنا الآن اكثر كيف ان ياسر عرفات رجل السلام الأول كان دائما في حالة حرب, ورجل الحوار الأول كان في ذروة الاشتباك, ورجل المرونة الخارق كان يسكن في قوقعة الثوابت الصلبة، ليس عنادا, وليس تعصبا, وليس قلة حيلة بل لأنه عرف من خلال صدق المعرفة أنهم اللاعبون انفسهم, المتصارعون انفسهم, السبايا انفسهم من العرب والمسلمين, لا يتركون لفلسطين مكانا إلا من خلال حضورها المفاجئ الذي ياتي خارج كل التوقعات.
كان ياسر عرفات يستمع الى كل ما يقال باستغراق ولكنه لم يكن يصدق إلا قليلا, وكان يحتفي باحتفالات السلام ويخبئ بندقية من اجل الحرب, وكان يبالغ في عناق الاخوة الاشقاء ويحضر لهم مفاجآت كبرى حين يسقطون في لعبة التآمر على فلسطين باستهانة, وكان يرى ان كل شيء جائز وحلال ومباح من اجل قيامة فلسطين من جديد في الجغرافيا السياسية وليس في الأناشيد, فلسطين دولة في أرضها وليس في الفرضيات الاخرى, فلسطين فوق كل الأولويات, فلا يمكن ان يكون هناك عرب بلا فلسطين, ولا مسلمون بلا فلسطين ولا سلام بلا فلسطين.
واذ نحتفي الآن بذكراك بحضورك المبهر, بعمق وجودك فينا, فإننا قطعنا شوطا بعيدا, تقدمنا بما لم يكن يتوقعه الأعداء على اختلاف درجاتهم ومسمياتهم, حلمك يا ياسر عرفات العادل يعتنقه شعب كامل, حلمك اكبر من مجرد اجماع, واكثر من مجرد التزام, حلمك هزيمة للخطيئة وانتصار للحق وبوابة للسلام.