أهم ما ينطوي عليه اكتساب فلسطين صفة الدولة عبر الجمعيةالعامة للأمم المتحدة هو تفعيل القوانين الدولية كمرجعية والحصول على حق التصديق علىالمعاهدات الدولية. هذا يشكّل نقلة إستراتيجية في النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، إذانه يدعّم المفاوضات بالشرعية الدولية ويطلق سراحها من رهينة السياسة أو التصعيد العسكري.هذا حدث نوعي، لكنه ليس خالياً من المجازفة والمغامرة. فمن جهة، قد يلاقي الانجاز الفلسطينيانتقاماً إسرائيلياًَ وأميركياً يكون مكلفاً للسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس وللشعبالفلسطيني تحت الاحتلال وكذلك للوكالات الدولية التي تقبل بدولة فلسطين عضواً فيها.من جهة أخرى، قد يكون هذا المنعطف التاريخي في المعادلة الفلسطينية – الإسرائيلية أفضلفرصة ممكنة لتحقيق حل الدولتين تماماً لأن في أيدي فلسطين أدوات جديدة. إسرائيل مازالت الأقوى عسكرياً وسياسياً ما دامت الولايات المتحدة حليفة لها مهما فعلت حتى بعدماتحدت الرئيس الأميركي وفرضت عليه التراجع عن سياسة وصفها بأنها تدخل في خانة المصلحةالقومية الأميركية. لكن أسس العلاقة بين إسرائيل وفلسطين تغيّرت الآن ولم تعد بين طرفقوي وطرف ضعيف لا حيلة له ولا أدوات لديه يرضخ لما يُفرَض عليه من أمر واقع تلو الآخر.وأهم تلك الأدوات التي غيّرت المعادلة هو أن مرتبة الدولة لفلسطين تعطيها حق التوجهالى المحكمة الجنائية الدولية للشكوى ليس فقط على جرائم حرب إذا ارتكبتها إسرائيل وإنماأيضاً للشكوى على مختلف ممارسات الدولة القائمة باحتلال دولة أخرى مثل المستوطنات غيرالشرعية التي ترفض إسرائيل حتى تجميدها. هذه الأدوات، حق الشكوى ورفع الدعاوى، قد تقوّيالشروط التفاوضية للفلسطينيين وتفرض على الإسرائيليين مقاربة جديدة نحو حل الدولتيننظراً لأن الخيار الآخر سيكون عزلة دولية عارمة بشكاوى ضدهم أمام المحكمة الجنائيةالدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب من ضمنها بناء المستوطنات في الدولة الخاضعة للاحتلالوالإبعاد القسري، على ما ينص ميثاق روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية. فالجديدفي المعادلة ان فلسطين تعتبر الآن قانونياً دولة تحت الاحتلال، وهذا يضع إسرائيل الدولةالقائمة بالاحتلال تحت طائلة المحاكمة.
هذا الأمر بالذات هو الذي أدى بكل من إسرائيل والولاياتالمتحدة الى هستيريا تهديدات وتوعّد بالعقاب والانتقام. فلقد تغيّرت قواعد اللعبة وباتفي أيدي الفلسطينيين أدوات تجرح في العمق الإسرائيلي – أدوات القانون الدولي كمرجعيةوكحليف.
استراتيجياً، هذا يعني أن في اليوم التالي لإقرار الجمعيةالعامة للأمم المتحدة قرار تصنيف فلسطين دولة – بغض النظر إن كانت دولة كاملة العضويةأو دولة غير عضو في الأمم المتحدة – يبدأ نوع جديد للتفاوض ويوم جديد للمقايضات التفاوضية،لأن القانون الدولي والشرعية الدولية باتا جزءاً من مرجعية المفاوضات.
قرار تصنيف فلسطين دولة يعني أيضاً، وفق تعبير كبيرالمفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات ان «الأمم المتحدة ستقضي على النقاط الثلاث من إستراتيجيةرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو وهي: سلطة من دون سلطة، واحتلال من دونكلفة، وغزة في حضن مصر».
القيادة الفلسطينية تدرك ان الانتقام الإسرائيلي الأرجحآتٍ، لكنها قررت انها جاهزة لتحمل النتائج والعواقب التي قد تمتد من احتجاز الأموالالفلسطينية الى ضرب الحصار على الرئيس محمود عباس كما سبق وحاصرت إسرائيل الرئيس الفلسطينيالراحل ياسر عرفات.
تدرك أيضاً ان الانتقام الذي توعّد به الكونغرس الأميركيربما هو أيضاً آتٍ وربما يطاول ليس فقط الفلسطينيين وإنما أيضاً وكالات الأمم المتحدةالتي تسمح لدولة فلسطين بأن تصبح عضواً فيها.
مجازفة القيادة الفلسطينية تنطلق من ثلاثة أمور رئيسةهي: أولاً، ان الانتقام الأميركي، كما الانتقام الإسرائيلي، سيكون سيفاً ذا حدّين يؤذيالمنتقِم والمنتقم منه. وثانياً، ان لعبة التوقيت طالت والانتظار سيطول بلا أفق زمنيولم تعد أمام السلطة الفلسطينية رؤية تُقنع بها الشعب الفلسطيني طالما ان إسرائيل مستمرةبالمستوطنات وتغيير المعالم على الأرض بما ينسف عملياً حل الدولتين ويجعل من عمليةالسلام نكتة سيئة. وثالثاً، صعود أسهم قيادة «حماس» في أعقاب أحداث غزة والإقبال عليهاكبديل الأمر الواقع للسلطة الفلسطينية دفع قيادة السلطة الى وضع الولايات المتحدة وإسرائيلمعاً أمام امتحان الاختيار الآتي بين السلطة الفلسطينية وبين «حماس» قائلة: اختارواوتحملوا تبعات الخيار بين «حماس» التي ترفض حل الدولتين وبين السلطة الفلسطينية التيتلتزم به.
عملياً، ما فعلته القيادة الفلسطينية هو وضع الاختياربين حل الدولتين ومحاكمة الاحتلال في أحضان القيادة الإسرائيلية والإدارة الأميركيةعلى السواء.
فعلت ذلك مع الإيحاء بكل وضوح بأن هدفها هو تحقيق حلالدولتين وليس محاكمة الاحتلال. لم تقدم الضمانات المسبقة بعدم التوجه الى المحكمةالجنائية الدولية كما طلبت منها بريطانيا نيابة عن الولايات المتحدة. لم تكفل مسبقاًأنها لن تتوجه الى الوكالات التابعة للأمم المتحدة للحصول على مكانة الدولة فيها –الأمر الذي سيؤدي الى تنفيذ الكونغرس الأميركي تعهده بقطع الأموال الأميركية عن تلكالوكالات ويؤدي أيضاً الى انعكاسات سلبية للولايات المتحدة. امتلكت الورقة الثمينةالجديدة في التفاوض وقالت انها مستعدة للعبها بذكاء وبمسؤولية طالما ان المعادلة الجديدةستؤدي الى لغة جديدة في المقايضات على أساس ما هو المطلوب من كل من اللاعبين الثلاثة:فلسطين، إسرائيل، والولايات المتحدة.
الكونغرس الأميركي تعهد في قرار تبناه باتخاذ إجراءاتسحب المساعدات وقطع الأموال عن هيئات ووكالات الأمم المتحدة إذا تبنت الجمعية العامةقراراً يعطي فلسطين مرتبة دولة «كاملة العضوية». ما سعت وراءه القيادة الفلسطينية وحصلتعليه، هو دولة «غير عضو» في الأمم المتحدة. هذا التمييز يترك مساحة أمام الكونغرس والإدارةالأميركية لئلا تسارع الى إجراءات لا تؤذي فقط الوكالات التابعة للأمم المتحدة وإنماتؤذي أيضاً الولايات المتحدة وتورطها.
فالانسحاب الأميركي من المنظمات الدولية يُنهي إحدىأهم أدوات التأثير الأميركي في الدول والشعوب في البلدان الفقيرة. قطع الأموال الأميركيةعن منظمة الغذاء العالمية يشكل مصيبة للولايات المتحدة. الانسحاب من منظمة الملكيةالفكرية يؤدي الى دحض الحماية الفكرية للأميركيين. فالسيف ذو حدين.
ثم إن قطع المساعدات عن وكالة غوث اللاجئين (أونروا)وكذلك عن السلطة الفلسطينية سيؤدي الى تآكل السلطة وربما انهيارها وأيضاً الى تفاقمالغضب الفلسطيني من الولايات المتحدة – وهذا سيؤدي الى انفلات أمني وفوضى عارمة وفراغتملأه ربما «حماس» والمنظمات الفلسطينية الرافضة حل الدولتين.
تنفيذ إسرائيل توعدها بحل التزاماتها بموجب اتفاقيةأوسلو على أساس أن السلطة الفلسطينية نسفت أوسلو عندما توجهت الى الأمم المتحدة للحصولعلى مرتبة دولة سيؤدي الى إلغاء الدور الفلسطيني الأمني الذي استفادت اسرائيل منه كثيراً.
ردود الفعل الإسرائيلية المتوقعة، وفق دراسة أعدها صائبعريقات بعنوان «اليوم التالي»، لن تقتصر على تحميل السلطة الفلسطينية مسؤولية تقويضالسلام، وإنما ستشمل: «حجز العائدات الضريبية الفلسطينية. استفزاز وإحداث تدهور فيالوضع الأمني على الأرض. اتخاذ خطوات للانسحاب الأحادي الجانب نحو الجدار. فرض قيودتؤثر في القطاع الخاص والاقتصاد العام» و «ربما تعليق العقود مع وزارات وهيئات السلطةالوطنية الفلسطينية».
أما الخطوات ذات التبعات الإستراتيجية، فإنها وفق الدراسةقد تتضمن الى جانب اعتبار الخطوة خرقاً لاتفاق أوسلو: رفض الاعتراف بالسيادة الفلسطينيةعلى الأرض الفلسطينية المحتلة... توسيع المستوطنات وتنشيطها بخاصة في القدس الشرقية...ضم بعض الكتل الاستيطانية الى إسرائيل... وربما إعلان أنها في حل من الاتفاقات الموقعةسابقاً.
ردود الفعل الأميركية وفق الدراسة، قد تشمل الى جانبتجميد التمويل للسلطة الفلسطينية والضغط على الحكومات الأخرى لثنيها عن تقديم الدعمللفلسطينيين وتعليق الدعم لهيئات ووكالات الأمم المتحدة: إغلاق مكتب منظمة التحريرفي واشنطن، وإعطاء الغطاء السياسي لإجراءات إسرائيلية ضد الفلسطينيين.
ما لن تتمكن الولايات المتحدة أو إسرائيل من تحقيقههو منع دولة فلسطين من الانضمام الى المعاهدات الدولية بما فيها اتفاقية روما للمحكمةالجنائية الدولية، واتفاقات حقوق الإنسان، وقانون البحار، واتفاقية جنيف الرابعة المعنيةبحماية المدنيين تحت الاحتلال. الرئيس السابق للدول المتعاقدة في نظام روما، سفير ليختنشتاين،كريستشان ويناويزر قال: «من حق فلسطين الانضمام الى أية معاهدة دولية بما فيها نظامروما للمحكمة الجنائية الدولية. وقانونياً، فور تبني قرار الجمعية العامة، ليس هناكأية أرضية لرفض عضوية فلسطين في أية من هذه المعاهدات». توقيت الانضمام قرار سياسيتفعّله أو تؤجله القيادة الفلسطينية على ما ترى انه في المصلحة الوطنية.
الفرصة الأولى ستُمنح لاستئناف المفاوضات بلا شروط مسبقةسوى ان تكون على أساس الشرعية الدولية بهدف تحقيق حل الدولتين طبقاً لحدود 1967 والقدسالشرقية عاصمة لفلسطين.
فالسلطة الفلسطينية لن تستعجل وتهرول للانضمام الى المحكمةالجنائية الدولية أو الى وكالات الأمم المتحدة. ما تنوي القيام به هو تحقيق انجاز الدولةلإعادة خلط الأوراق التفاوضية وفي جيبها أدوات.
فإذا اختارت الإدارة الأميركية ان توظف فترة الاستراحةلتتقدم بما لديها من خطة لإحياء المفاوضات الجدية، قد تحتفظ السلطة الفلسطينية بـ«حق» اللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية والانتماء الى الوكالات الدولية شرط أن يكونهناك أفق زمني واضح لإتمام المفاوضات ووضعها على سكة جديدة – جدية وحيوية.
أما إذا كان الرد على الانجاز الفلسطيني الانتقام أوالتوعد به أو الوعود المطاطة، فستتوجه السلطة الفلسطينية نحو إستراتيجية الانضمام الىالمعاهدات والوكالات واحدة تلو الأخرى، كما يقتضيه الرد على الإجراءات الإسرائيليةوالأميركية.
انه يوم جديد. انها صفحة جديدة. انه امتحان جدي للاختياربين جدية تطبيق حل الدولتين وبين محاكمة الاحتلال، بين السلطة الفلسطينية وبين «حماس»ممثلاً للفلسطينيين. فالأدوات القانونية غيّرت الأسس الجذرية للعلاقة بين طرفي النزاعالفلسطيني – الإسرائيلي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها