مثل كل سنة وبالتحديد في أواخرها، ها هو عام يرحل وآخر يطل. ومع ذلك، فإن الوقائع السياسية لا تعترف بالمحطات الزمنية، ولا تقف عند التواريخ، بل تستمر جارية كأن لا سنة انتهت ولا عاماً أطل. ومهما يكن حساب الزمن فإن عام 2015 كان عام موت المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية واسرائيل، وولادة المقاومة الجديدة التي اندلعت بعزيمة مدهشة في تشرين الثاني 2015. ولعل انطلاقة المقاومة الفلسطينية الجديدة هي اعلان رسمي عن دفن آخر أوهام المفاوضات. والمعروف أن هذه المقاومة بدأت في مدينة القدس أولاً، ثم انتقلت الى مدينة الخليل ومحيطها. وهذا الأمر يعني، في أحد وجوهه، فشل اسرائيل بعد نحو 49 سنة من الاحتلال، في تحويل القدس العربية الى مجرد حي في مدينة يهودية كبرى، أو تحويل العرب الى مجموعات سكانية منفصل بعضها عن بعض. وها هم المقدسيون بيرهنون في كل يوم عن وحدتهم الوطنية وعن تشبثهم بالبقاء في مدينتهم المرصودة لتكون عاصمة فلسطين الحرة. وما يجري في القدس يتكرر في الخليل التي اقتطع الاحتلال منها الشارع التجاري الرئيسي وفيه 1500 متجر، إستولى على 57% من الحرم الابراهيمي ومحيطه ليحمي – بحسب زعمه – 850 مستوطناً فقط.
اتفاق مهرّب
مرّ عام 2015، وقليلون هم الذين تنبهوا الى الاتفاق الاسرائيلي – الاردني في شأن المسجد الأقصى، وهو اتفاق خطير جداً من حيث المبنى والمعنى. فقد تضمن الاتفاق عدة بنود منها: احترام اسرائيل الولاية الهاشمية على الأوقاف الاسلامية في القدس ومن بينها المسجد الاقصى؛ وعدم تغيير الوضع القائم في المسجد؛ وتركيب كاميرات مراقبة لرصد منتهكي الوضع القائم ومحاسبتهم. وعلى الرغم من هذا الاتفاق أو التفاهم، رفضت اسرائيل ان تتولى الاوقاف الاسلامية تركيب كاميرات المراقبة، وتحديد أماكن تلك الكاميرات، لأن السلطات الاسرائيلية أرادت أن تستخدم هذه الكاميرات لا لاكتشاف من ينتهك حرمة المسجد، وهو معروف تماماً، واسمه الصريح جماعات المستوطنين اليمينيين المتطرفين، بل للتجسس على الشبان الفلسطينيين الذين يرابطون في المكان لحمايته من المستوطنين الهائجين.
إن خطورة هذا الاتفاق لا تكمن في بنوده القليلة، بل انه جرى بين الأردن واسرائيل من وراء ظهر السلطة الوطنية الفلسطينية، وهذا افتئات على المرجعية الأولى والاخيرة للشعب الفلسطيني أي منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى السلطة الفلسطينية في آن واحد. وهذا التصرف غير المستغرب من اسرائيل على الاطلاق، يصبح شديد الغرابة حين يكون الاردن ضالعاً فيه، ما يجعل الامور أكثر تعقيداً أمام الفلسطينيين، ويضيف عقدة سلبية جديدة الى السلبيات القديمة والمتجددة مثل استمرار الانقسام السياسي والجغرافي بين قطاع غزة والضفة الغربية الذي دشنته حركة حماس في 14/6/2007، أي منذ نحو تسع سنوات، ولم يقيض له ان ينتهي حتى اليوم. ومن العلامات السالبة التي تركها العام 2015 معلقة مسألة عقد دورة جديدة للمجلس الوطني الفلسطيني، وعقد المؤتمر السابع لحركة فتح ولا ريب ان اي تجديد في فاعلية المجلس الوطني وفي حركة فتح عليه ان يجتاز هذا الممر الاجباري، أي عقد المؤتمرين لانتخاب الهيئات القيادية الجديدة، وصوغ البرنامج السياسي الذي يتلاءم مع التغيرات الهائلة التي عصفت بفلسطين وبالمنطقة العربية معاً. والى هذه المسائل المعلقة يمكن الاشارة الى ان قطاغ غزة لم يتغير فيه اي شيء البتة، فالاعمار قضية مؤجلة، والحصار ما برح قائماً، والمعابر تُفتح وتُغلق بحسب المشيئة الأمنية، وهي مشيئة اعتباطية في معظم الاحيان، والسكان عافوا حياتهم في ظل المكابرات والعنجهيات وعدم الالتفات الى المصالح اليومية، وما عادوا مقتنعين بدفع التكاليف الهائلة لـ "مقاومة" كفت عن المقاومة منذ سنة 2007، وتحولت الى استراتيجية "التهدئة" بدلاً منها.
خطة هندل
في خضم وقائع الاحوال التي خلفها وراءه العام 2015، ما زال الاسرائيليون مشغولون بالفلسطينيين وحدهم، بعدما بات العالم العربي لا يشغل الا القليل في أولويات الاسرائيليين وبعدما صار لا يشكل أي خطر مباشر على الأمن الاسرائيلي في المدى القصير. الشغل الشاغل لإسرائيل، على الرغم من الصورة الخادعة، هو فلسطين والفلسطينيون.وما فتئت القيادة المتطرفة الاسرائيلية تعمل، بلا كلل، على خلق شروط موضوعية تجعل الانزلاق نحو "دولة ثنائية القومية" أمراً مستحيلاً. وكان نتنياهو نفسه تعهد عشية تأليف حكومته منع قيام دولة فلسطينية مستقلة. ولمزيد من العنجهية والتحدي أعلن أنه لن يخلي المستوطنات في الضفة الغربية في أي حل سياسي مقبل. ولم يكتفِ، منذ ذلك الحين، ببناء مستوطنات جديدة، بل عمد الى تسمين المستوطنات الموجودة حيث وصل عدد المستوطنين الى قرابة 400 ألف مستوطن: وفوقهم نحو 200 ألف محتل في مدينة القدس.
في هذا السياق أعلن بوعز هندل "خطة الفصل القومي" بين الفلسطينيين والإسرائيليين وهذه الخطة الخطيرة جداً تستند الى ادعائين: الأول هو عدم التوصل الى أي حل لقضية اللاجئين، والثاني هو أن من المحال حل مشكلة القدس، وبالتالي فإن حل قضية فلسطين غير ممكن بدوره. وفي هذه الحال يقترح بوعز هندل ما يلي:
1. ضم كتلة مستعمرات غوش عتسيون رسمياً الى اسرائيل.
2. إعلان المنطقة أ والمنطقة ب دولة فلسطينية غير نهائية الحدود، أو ذات حدود موقتة.
3. اعتبار المنطقة ج منطقة متنازع علهيا، ويحُل هذا النزاع بالمفاوضات.
4. يبقى المستوطنون في الضفة الغربية كمواطنين إسرائيليين، ويصبح الفلسطينيون مواطنين في الدولة الفلسطينية. أما السيطرة الامنية على المنطقة ج فتظل في أيدي الاسرائيليين.
5. الدولة الفلسطينية المقترحة غير ملزمة الاعتراف بدولة اسرائيل كدولة يهودية
6. تضم أحياء طرفية من القدس الى نطاق الدولة الفلسطينية، الامر الذي يسمح بالادعاء أن بعض القدس تحرر.
تعكس هذه الخطة ما هو مستور في التفكير الامني لصانعي القرار السياسي في اسرائيل. ومع أنها تمثل الحد الاقصى لطموحات اسرائيل السياسية في الموضوع الفلسطيني، إلا انها، في الوقت نفسه، تواجه غضباً عارماً في الاوساط الاكثر تطرفاً في اسرائيل. لكن نتنياهو والمجلس الوزاري المصغر يعولان على قرب استخراج النفط والغاز من المكامن في البحر المتوسط، الامر الذي سيعود على الخزينة الاسرائيلية بالمليارات ويمكِّن الحكومة من تحويل أموال اضافية الى قضايا الرفاة الاجتماعي والامن، ولا سيما أمن المستوطنين والمستوطنات، علاوة على الصحة والتعليم وخفض غلاء المعيشة وزياد الاستثمارات التي ستوفر فرص عمل كثيرة.
نحو السلاح
ما هي الأوراق الرابحة الموجودة لدى منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية؟ إنها كثيرة وإن كانت محدودة القوة في المدى القصير. لكن، ما هي الأوراق القوية لدى الشعب الفلسطيني؟ إنها موجودة بالتأكيد، وأولاها التشبث بالأرض والعناد في هذا التشبث، ثم المقاومة بما ملكت أيدي هذا الشعب على غرار ما يفعل أبناؤه في كل يوم: المقاومة بالدهس والمقاومة بالطعن، والمقاومة بالتظاهر والحجارة. واعتقد ان المقاومة بالسلاح كالمسدسات مثلاً قد اقترب ظهورها وهو يعني، في حال تحققه، نقلة نوعية في أسلوب المواجهة، وأكثر إيلاما للاسرائيليين من الاسلحة التي سبقته.في المسار السياسي، خصوصاً بعدما صوّت البرلمان اليوناني على الاعتراف بدولة فلسطين في أواخر كانون الأول 2015، فمن المتوقع أن تتوالى الاعترافات بدولة فلسطين حتى تشمل أوروبا كلها، ومن شأن ذلك أن يقويّ مقاطعة منتجات المستوطنين في الاتحاد الاوروبي، ويسهل عملية السعي لدى دول أميركا اللاتينية كي تحذو حذو دول الاتحاد الاوروبي في مقاطعة منتجات المستوطنات. وفوق ذلك، فإن العام 2016 مرصود منذ اليوم لاستصدار ثلاثة قرارات من مجلس الأمن: الأول يطالب بإنهاء الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية بما فيها مدينة القدس، والثاني يطلب توفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال منذ تسعة وأربعين عاماً، والثالث ينص على الوقف الفوري للاستيطان. وفي معمعان هذه المواجهة، من المتوقع ان تزداد المخاطر لا على المسجد الاقصى وحده، كتقسيمة مكانياً وزمانياً بين المسلمين واليهود على غرار ما فعله الاحتلال في الحرم الابراهيمي في الخليل، بل على مدينة القدس وسكانها، كطرد أعداد غير محددة منهم، وإلغاء بطاقات إقاماتهم في المدينة، وهدم أحياء منها، وغير ذلك من الأساليب الاحتلالية التي تتجه الى تطويع المدينة وأهلها.
عام 2016 هو فرصة للفلسطينيين كي يشدّوا الخناق على اسرائيل في المجال الدولي، ويواصلوا المواجهة المباشرة بالدهس والطعن وبأي سلاح آخر ممكن. إنها فرصة واحتمال معاً؛ بمعنى أن احتمال الخسارة واردة اذا لم يحسن الفلسطينيون قيادة وشعباً ومؤسسات استخدام أوراقهم بفاعلية لإجهاض الخطط الاسرائيلية من عيار "خطة هندل".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها