بقلم/ صقر أبو فخر
صدرت مؤخراً في بيروت وثيقة مهمة بعنوان "تصور حلول عملانية لقضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان: وجهة نظر مسيحية" (دار سائر المشرق، 2013). وقد احتوت هذه الوثيقة التي أعدها الباحث زياد الصائغ مجموعة من المواقف الجديدة للقوى السياسية والدينية المسيحية في لبنان. وفي ما يلي نقاش في مضمون هذه الوثيقة المهمة.
لا أجازف في الإستنتاج إذا قلت إن هذا النص الموسوم بعنوان "تصور حلول عملانية لقضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان" إنما هو وثيقة مهمة جداً في سياق تصحيح العلاقة بين اللبنانيين والفلسطينيين، وسيُضاف بالتأكيد إلى "إعلان بيروت" الذي صدر عن ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان في سنة 2008 والذي فتح ابواباً موصدة بين الشعبين، وهدم أسواراً من الريبة بين الطرفين. وتبدو الروح الايجابية غامرة جميع فقرات هذا النص بلا ادعاء أو تكلف أو مسايرة، فما عدنا نسمع من هنا أوهناك أفكاراً عن توزيع الفلسطينيين على الدول العربية مثلاً. وغاية هذا التصور، بحسب منطوق عباراته، هي "خدمة لبنان واللاجئين الفلسطينيين". وقد تمكن الكاتب زياد الصائغ بجهد لافت، وبمهارة في صوغ النتائج، من أن يعرض علينا وثيقة مفاجئة في بعض مضامينها، وتكاد تطابق، إلى حد كبير، مواقف حركة فتح أو منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا أمر لافت، فهو يقول: "الإشكالية السيادية في الفكر المسيحي تنحو باتجاه بناء بيئة آمنة للاجئين الفلسطينيين تكون الدولة اللبنانية مسؤولة عنها دعماً للقضية الفلسطينية على قاعدة حماية مناعة لبنان في ميثاقية عيشه المشترك، وتفادياً لامتدادات مفاهيم الأمن الذاتي المدمرة".
في هذه المسألة، أستطيع أن أنتدب نفسي للقول إن جميع الفلسطينيين في لبنان بفصائلهم وهيئاتهم التمثيلية ومؤسساتهم وناشطيهم (في ما عدا بعض المجموعات التكفيرية التي نشأت في أزقة المخيمات المعتمة والمتربة) يوافقون مئة في المئة على هذا التصور. غير أني سأعرض، استطراداً، بعض الملاحظات التي من شأنها أن تنير بعض الزوايا الظليلة في العلاقات الفلسطينية – اللبنانية، والذي يحرص هذا التصور على جلائها التام. ولعل هذه الملاحظات وغيرها بالطبع، في ما لو دُمجت في هذا التصور، تستطيع أن تنقل هذا النص من "وجهة نظر مسيحية" إلى "وجهة نظر وطنية شاملة". أما الاشكاليات الجارية بين اللاجئين واللبنانيين فيكثفها زياد الصائغ بثلاث:
1- الاشكالية الوطنية الميثاقية التي تتضمن رفضاً مطلقاً للتوطين قناعة بحق العودة وحماية للصيغة الميثاقية اللبنانية.
2- الإشكالية السيادية - الأمنية التي تتضمن وجوب إنهاء حالة السلاح الفلسطيني في خارج المخيمات وفي داخلها، واستعادة الدولة اللبنانية سيادتها الكاملة على المخيمات وعلى الأراضي اللبنانية كلها.
هاتان الإشكاليتان لا اعتراضَ فلسطينياً عليها البتة، ولا خلافَ فلسطينياً في شأنها على الإطلاق إلا من بعض المجموعات المنفِّرة والجماعات الكريهة التي لا تعنيها مثل هذه الأمور أبداً، بل إن ما يعنيها هو تطبيق شريعيتها على المجتمع وإقامة خرافة الدولة الاسلامية، وتتوسل ذلك بالقتل والتفجير طمعاً بجنة موعودة أو بحورية غير مشهودة. الفلسطينيون في لبنان يلتزمون ما قررته لجنة الحوار الوطني اللبناني في شأن السلاح الفلسطيني.
3- أما إشكالية الحقوق – إنسانية، فهي ترى في تحسين أوضاع اللاجئين مسؤولية دولية عربية، وأن على هذه المسؤولية أن تأخذ في الاعتبار خصوصية المجتمع اللبناني، خصوصاً على المستويات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية البنيوية.
سأقول إن عبارة "خصوصية المجتمع اللبناني" تنطوي على كلام مضمر يشير إلى أن الحقوق الفلسطينية ستؤثر في خصوصية المجتمع اللبناني. وهذا أمر لا يصمد أمام الحقائق العلمية. هناك مسؤولية لبنانية في هذه المسألة بالتأكيد، قبل المسؤولية الدولية والعربية، وهذا أمر بدهي في دولة مضيفة للاجئين. غير أن النص يلاحظ أن "الإشكالية الحقوق – انسانية تمحورت حول عجز لبنان دولة وشعباً عن تأمين كل ما يحتاجه اللاجئون".
كنت أتوقع ان يستخدم زياد الصائغ كلمة "امتناع لبنان عن تأمين كل ما يحتاجه اللاجئون"، لأن الحكومات اللبنانية المتعاقبة، كما هو معروف، لم تحاول مساعدة اللاجئين إلا في شؤون قليلة جداً وهامشية، وتركت ذلك كله للأونروا واكتفت بقضايا الأمن والسياسة. وبهذا المعنى لم يرَ الفلسطينيون إلا الوجه القمعي للدولة، فنمت جراء ذلك كتلة بشرية في المخيمات تنفر من الدولة ومؤسساتها. وفي السياق نفسه، يتمنع النص عن الاقرار بحق الفلسطينيين في العمل في المهن الحرة لأن "المنافسة كبيرة بين اللبنانيين، وهم يهاجرون لأنهم غير قادرين على العمل".
هذا الكلام غير علمي على الاطلاق. فعدد الأطباء الفلسطينيين في لبنان أقل من 400 طبيب، وهناك نحو 375 مهندساً، ولا يتجاوز عدد المحامين الأربعين، علاوة على بعض الصيادلة والمحاسبين. فهل هؤلاء يمثلون منافسة جدية لأصحاب المهن الحرة في لبنان؟ مع العلم أن بعض هؤلاء كالأطباء لا يطلبون العمل، فهم يعملون، في الأساس، في المؤسسات الطبية الفلسطينية، كما أن عدداً من المهندسين يعملون في كبرى المؤسسات الهندسية الفلسطينية في هذا البلد مثل اتحاد المقاولين (CCC) وخطيب وعلمي ودار الهندسة. هل يغصُّ البلد وتتأثر خصوصية المجتمع اللبناني بثلاثمئة مهندس من بين أكثر من 15 ألف مهندس في لبنان؟ والمعروف أن قوة العمل الفلسطينية في لبنان لا تتجاوز الثمانين ألف عامل. ونصف هؤلاء يعملون في مؤسسات منظمة التحرير وفي الأونروا وفي الجمعيات الأهلية، أو يكسب رزقه من عمله في الورش والدكاكين والمشاغل الحرفية. إذاً، يبقى نحو 40 ألف طالب عمل، وهؤلاء أقل بكثير من نصف الجالية المصرية أو السريلانكية، أي أن التخوف من المنافسة مبالغ فيه كثيراً.
في ما يتعدى هذه المخاوف، فإن مكانة لبنان وسمعته وصدقية الدولة اللبنانية، تتقدم على هذه المخاوف كلها. فلبنان الذي وافق على معاهدة اللاجئين الموقعة في سنة 1951 لم يلتزم أي بند من بنودها الأساسية. فالمادة الرابعة تنص التالي: "توفر الدولة التي تستقبل اللاجئين معاملة متساوية لتلك التي تعامل بها مواطنيها". وتنص المادة 17 ما يلي: " في حال اتخاذ تدابير لحماية العمالة المحلية في وجه المنافسة الأجنبية فإن اللاجئ يُستثنى من هذا المبدأ". وتقول المادة 22: "يُعامل اللاجئون معاملة المواطن عبر الحق في تلقي التعليم العام". أما المادة 24 فتؤكد حق اللاجئ في المساواة مع المواطنين في ما يتعلق بتشريعات العمل والضمان الاجتماعي.
إن هذا التصور المسيحي يخالف بنود معاهدة اللاجئين حين يقترح ان تكون حصة اللاجئين في التعليم من ضمن حصة الرعايا الأجانب، لكنه لا يمانع في تمييز اللاجئين على حساب الأجانب "من منطلق خصوصية لجوئهم وطبيعة قضيتهم السياسية"، لكن في اطار "كوتا" الأجانب.
علي يرث وعلي لا يرث في الوقت نفسه! فمن جهة يرغب هذا التصور في تمييز اللاجئين في الإفادة من الخدمات التربوية، وفي الوقت نفسه يمنح الأجانب الأفضلية عليهم في التملك؛ فالنص يعتبر "التملك توطيناً ما يحتم رفضه نهائياً".
غريب هذا الموقف. فالفلسطيني كان طوال لجوئه منذ سنة 1948 حتى سنة 2001 يتملك العقارات. فهل كان ذلك تطبيقاً للتوطين؟ لا بالطبع. فالتملك، بحسب رأيي، لا يعني التوطين أبداً. التضييق والتهميش والاستثناء هو ما يؤدي إلى التوطين فعلاً. نعم إلى التوطين، لكن في دولة أخرى، لأن الهجرة هي توطين لكن في خارج لبنان. وهذ هي حال جهات كثيرة في لبنان تعتقد أن من الأجدى عدم تغيير أحوال اللاجئين إلى الأفضل، لأن من شأن ذلك أن يدفع بهم إلى مغادرة لبنان، بالتدريج، وهذا ما يجري فعلاً.
التملك ليس توطيناً. انكلترا وتركيا والمغرب واسبانيا واليونان، على سبيل المثال، تدعو الأجانب إلى التملك فيها، وتنفق في هذا السبيل ملايين الدولارات في الحملات الترويجية. وهل إذا غادر الفلسطيني لبنان يوماً سيجر معه ما يملك، منزلاً أَكان أم قطعة أرض؟ العقار يبقى في بلده في جميع الحالات، ومن يعرف علم الاقتصاد يعرف أن التخوف من تملك الفلسطيني الحقوق العينية والعقارية هراء.
* * *
المسألة الختامية التي أود الاشارة اليها هي لغة الاخفاء التي ما برح السياسيون اللبنانيون يتفوهون بها حتى في هذه المسألة الجدية، والتي يجب، هنا بالتحديد، أن تكون واضحة جداً. فقد لفتني موقف حزب الكتائب وحزب القوات اللبنانية من الإشكالية الحقوق – انسانية، فهو موقف جيد حقاً. ولفتني أيضاً موقف التيار الوطني الحر ولا سيما إشارته إلى شرعة حقوق الانسان. لكن شرعة حقوق الانسان تنص على الحق في التملك، بينما التيار ما فتئ يرفض ذلك.
تقول خلاصة هذا النص: " إن المسيحيين في لبنان يتطلعون إلى حياة كريمة للاجئين انطلاقاً من احترام حقوق الانسان والتأكيد على مسؤولية المجتمع الدولي تجاه تحسين أوضاع اللاجئين". هنا أود التذكير بأن الإعلان العالمي لحقوق الانسان ينص في مادته السابعة على "أن لكل شخص حق التملك (...) ولا يحق تجريد أحد من ملكيته". والدولة اللبنانية خالفت هذا الاعلان، وجردت الفلسطينيين من ممتلكاتهم في سنة 2001.
أخيراً يطالب النص بالخروج من ثقافة الاتهام بالعنصرية، والرد على ذلك بتهم الاستباحة. وهذا كلام صحيح تماماً، ولكن، ما العمل إذا خرج بين الفينة والفينة فلان من الناس ليدلي بكلام عنصري ضد الفلسطينيين؟ سيرد عليه في هذه الحال فلسطينيون آخرون، يعتقد كل واحد منهم أن كرامته الوطنية قد مُست. وهكذا نعود إلى قوالي الزجل، وكل ردة لها ردة معاكسة. لكنني أعتقد أن هذا التصور سيشكل شوطاً مهماً في السعي نحو صوغ ميثاق لبناني – فلسطيني يطوي الماضي ويؤسس لمستقبل مفعم بالأمل.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها