اتبعت الرئاسة الإخوانية المصرية، حتى الآن أسوأ سياسة ممكنة مع الفلسطينيين، فهي لم تكلف نفسها وسعاً، حتى ببحث ملف المصالحة، ولا بإعادة تكليف لا جهاز مخابراتها، ولا أي جهاز آخر في الدولة بمتابعة هذا الملف، ورغم ما أبداه الرئيس محمود عباس من حسن نية، بل ومن التزام أخلاقي تجاه القاهرة، حين رد الطلب الإيراني برعاية هذا الملف، ومن ثم إعلانه أن القاهرة هي راعي المصالحة، إلا أن القاهرة لم ترد ولو بكلمة واحدة على هذا الموقف!

في الشأن الإقليمي، تبدو قاهرة الإخوان تقترب في سياستها مما توليه الدوحة من أولويات سياسية، حين أظهر الرئيس محمد مرسي اهتمامه الخاص بالشأن السوري، وقدم جزرة لطهران من خلال عرضه مقايضة العلاقات الدبلوماسية مع بلاده بتخلي طهران عن دعمها لنظام الأسد، بالمقابل، يتراجع اهتمام القاهرة بالشأن الفلسطيني، بما في ذلك معركة الفلسطينيين في الأمم المتحدة، حيث يبدو موقف القاهرة، من ذهاب الرئيس عباس للأمم المتحدة متراجعاً عن موقفها خلال العام الماضي والفترة السابقة كلها، ويشبه إلى حد بعيد موقف حركة حماس، التي إن لم تعارض ذلك التوجه، فإنها لا تهتم به وكأنه شأن يخص عالماً آخر!

وتزيد القاهرة الطين بلة حين تغذي أوهام حماس / غزة بتداول الحديث عن فتح معبر غزة _ وفك الحصار، خارج سياق المصالحة، بل وخارج نطاق الالتزام الإسرائيلي باعتباره الطرف الذي يفرض الحصار الجوي والمائي، ومن غير اشتراط وجود الكل الوطني في المعبر _ على مدار الساعة، فيما يبدو الخلاف فقط بين القاهرة و'حماس' غزة، في الاستجابة لطموح 'حماس' غير المحدود، بتحويل رفح الى منطقة حرة، بهدف إثراء أصحابها تجارياً، مما أوصل ملف المصالحة، الذي يشكل التزاماً أخلاقياً للقاهرة الى طريق مسدود، ووضع الجهود الخاصة به، في الثلاجة.

الحال السياسي الداخلي، الذي تسببت به سياسة قاهرة الإخوان هذه، يفسره كثير من المراقبين على انه تسبب في أزمة علاقات بينها وبين السلطة الفلسطينية، بل ويمكن أن نزيد القول إنه قد فتح باب التنافس بين قيادات 'حماس' نفسها، من خلال تسارع تلك القيادات للذهاب الى العاصمة المصرية، فرغم إقامة موسى أبو مرزوق فيها منذ نحو عام، ورغم حرص خالد مشعل على الذهاب إليها، وبأي مناسبة، حتى لو كانت التقاء عمر البشير، إلا أن أهم اللقاءات، تلك التي تجري بين عنوان الانقسام الفلسطيني، إسماعيل هنية وكبار المسؤولين المصرين، وبالتحديد الرئيس المصري نفسه، ورئيس حكومته، بما تنطوي عليه هذه اللقاءات من إشارات سياسية واضحة وفي منتهى الخطورة، تظهره شخصية رسمية تمثل كياناً مستقلاً!

وإذا كانت قطر الآن تشكل واحداً من أهم العناوين الرسمية العربية، فإن ذهاب الفلسطينيين _ وحدهم _ للأمم المتحدة، وفي سياق أزمة مالية طاحنة، تؤكد أنها مظهر للضغط، من أجل ثني عباس عن الذهاب للأمم المتحدة، فإن تراجع القاهرة عن القيام بدورها الداعم المعتاد هو الذي يسبب الغصة في حلوق الفلسطينيين.

من الواضح أن الرئيس عباس، يدرك بخبرته وحنكته السياسية هذا المتغير السياسي، بل ويكتوي بناره مباشرة وبشكل يومي، لذا فأغلب الظن انه يرى في معركته بالأمم المتحدة ورقته الأخيرة، التي لابد من إنجازها، قبل أن تغوص المنطقة في واقع 'التفتيت والتجزيء' الذي تقوده واشنطن، مثال: العراق، سوريا، ليبيا، وحتى اليمن، وقبل أن تدفع ريموتات الدوحة / واشنطن الأمور الى تولي إخوان الأردن و'حماس' الضفة مقاليد الحكم، حتى يتم الدفع بالملف الفلسطيني الى طاولة الحل الإقليمي، الذي ستكون أهم مظاهره، الفصل التام بين غزة والضفة، ثم مكانة غير متطابقة بالضرورة بين كل من غزة والضفة، ثم عدم الإصرار على الانسحاب الإسرائيلي الى حدود الرابع من حزيران، خاصة في الضفة والقدس.

هي فرصة عباس وورقته الأخيرة إذاً، أن يكبل حكماً إخوانياً / حمساوياً متداخلاً مع حكم إخواني في كل من مصر والأردن، ربما بعد الانتهاء من حكم الأسد في سوريا، بواقع الدولة الفلسطينية غير العضو، او التي أراضيها محتلة، في حدود العام 67، خاصة وان هذا الحكم الذي يتشكل في الأفق، هو حكم متحالف مع واشنطن، ولديه منطلقات فكرية، مختلفة عن محددات البرنامج الوطني الفلسطيني، وهذا ما يفسر ما تناقلته بعض وسائل الإعلام من أن الرئيس ينوي التنحي عن منصب رئيس السلطة، بعد عودته من نيويورك، وتحويل برنامج ترجمة الدولة في الأمم المتحدة الى واقع، الى برنامج كفاحي، لقطع الطريق على مفاوضات رخيصة ستجري بعد أسقاط م.ت. ف والسلطة الحالية من قيادة الكفاح الفلسطيني.

نجاح الرئيس عباس في إنجاز هذه الخطوة سيدخله التاريخ الوطني من أوسع أبوابه، لكن الأيام القليلة القادمة ستنطوي على مخاطر جمة، لا حدود لها، ولا شيء مستبعد على الإطلاق في مواجهة هذا التحالف السياسي الجديد الذي يجتاح المنطقة، ولا يترك لها وقتاً لتلتقط أنفاسها، حتى تعيد ترتيب أمورها وفق مصالح شعوبها، لكن السؤال الأساسي هنا، هو هل تعني أعادة الترتيب هذه زج الملف الفلسطيني من حيث هو ملف استقلال وطني ودولة موحدة ومستقلة إلى الهامش، لمعالجته بهدوء وبعيداً عن أعين الناس، معالجة متواضعة، أم ينجح الشعب الفلسطيني مجدداً في تقدم الصفوف، وقلب الطاولة على هذا المسعى الإقليمي واسع الخيال؟

الإجابة تحتاج قيادة الى جانب أبو مازن تعود للشارع والى لياقة الكفاح الدؤوب طويل النفس.