عزاء حار للشعب المصري في أبنائه من الضباط والجنود الذين سقطوا في شريط رفح الحدودي – بفعل إرهابي مخطط ومدروس ومتعمد، وبتقنية عالية، وكفاءة كبيرة جدا، يشتم منها رائحة أجهزة الاستخبارات الدولية.

لماذا هذه المجزرة التي سقط فيها ستة عشر ضابطا وجنديا بالإضافة إلى سبعة جرحى من أفراد الجيش المصري ووزارة الداخلية المصرية؟

والجواب على هذا السؤال لا تنفع معه تلك اللغة الملتبسة والمتناقضة أحيانا، والساذجة إلى حد السخرية التي كانت تستخدم من جميع الأطراف بمن فيهم الطرف المصري في المرحلة السابقة! ذلك أن المجزرة التي وقعت في شريط رفح الحدودي، تشكل نقطة ذروة في الاشتباك بين المشاريع الكبرى المتناقضة، المصيرية، التي يحاول أصحابها أن ينفذوها في سيناء، والكلام في هذا الموضوع ليس سرا، وليس جديدا، وهو موجود بنصوص وتصورات كاملة في مؤتمرات «هرتسيليا» الإستراتيجية، تحت بند الحل الإقليمي، وموجودة في الاوراق التي قدمت لمعهد دراسات الشرق الأوسط الاميركي الذي يخدم وزارة الخارجية الاميركية بشكل خاص، وموجود في حيثيات الانسحاب الإسرائيلي من غزة أحادي الجانب من قطاع غزة في خريف 2005، بل إن هذا الكلام هو أحد الحوافز الرئيسية التي أدت إلى حدوث الانقسام الذي وقع في الرابع عشر من حزيران 2007، وهو نفسه ركيزة الفشل الرئيسية التي منيت بها عملية المصالحة الفلسطينية، التي كلما تقدمت خطوة واحدة على صعيد الاتفاقات والكلام الشفهي، عادت وتراجعت عشرات الخطوات على مستوى الممارسة الفعلية، وعلى مستوى توجهات السلوك العام.

ما هي هذه المشاريع التي تتطاحن مع بعضها، وتشكل مجزرة الأحد الأسود يوم أمس الأول واحدة من نقاط الذروة فيها؟

أولا: هناك المشروع الفلسطيني العربي الذي يستند غلى قرارات الشرعية الدولية، وهو مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، بحيث يكون قطاع غزة جزءا عضويا من هذه الدولة، وتركيز الاهتمام الرئيسي في الخطط المتعلقة بقطاع غزة بالاتجاه شمالا، غلى الضفة، وليس الاتجاه جنوبا غلى سيناء

والذين خاضوا غمار المفاوضات في كامب ديفيد الأولى المصرية وفي كامب ديفيد الثانية الفلسطينية، لديهم كمية هائلة من الأسرار والتفاصيل كيف رفض الرئيس السادات رفضا قاطعا أن يأخذ قطاع غزة خارج سياقه الفلسطيني، بل إن الرئيس السادات رد على الضغوط التي تعرض لها بقوة ذات يوم بطريقة ملفتة جدا، حين أكد أن من حق منظمة التحرير الفلسطينية أن ترفض أي اتفاق ليست هي طرفا فيه، كل ذلك من أجل القضاء نهائيا على فكرة سلخ قطاع غزة عن مداره الفلسطيني، وإحلاله ليكون بديلا نهائيا عن فلسطين وبقية الحقوق الفلسطينية.

وعلى مستوى مباحثات كامب ديفيد الثانية الفلسطينية، فإن ياسر عرفات رفض بشكل قاطع كل الإغراءات الكبرى التي قدمت له حتى يكون قطاع غزة هو البداية والنهاية! وحين قبل تبادل الأراضي، فإن فكرته كانت توسيع قطاع غزة في الأرض الفلسطينية نفسها وليس في سيناء! وربما لا يعرف الكثيرون أن الرئيس كلينتون الذي جاء إلى قطاع غزة مع زوجته هيلاري وافتتح مطار غزة الدولي كان اكبر المعارضين لبناء هذا المطار وكان يعرض على الرئيس عرفات بدائل مغرية من الصعب أن يرفضها أحد، بأن يكون مطار العريش وميناء العريش مخصصين بالمطلق لخدمة قطاع غزة مع طريق ارضي (underground) تحت إشراف دولي يصل بين العريش والقطاع.

الموقف الرسمي المصري والموقف الرسمي الفلسطيني، ظل ومازال هو محور المشروع الفلسطيني العربي، بدولة فلسطينية مستقلة في حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية، أي أن قطاع غزة جزء عضوي من السياق والمصير الفلسطيني وليس خارج السياق،

ثانيا: المشروع الذي تتبناه إسرائيل بقوة، وقتلت من أجله رابين، واغتالت من اجله عرفات، وانسحبت من أجله من قطاع غزة، وشنت حربا من أجله على قطاع غزة في نهاية 2008، يتجسد في نقطة جوهرية واحدة، غزة بدلا من فلسطين، دولة موسعة في غزة على أن يكون التوسع في سيناء وقطع الصلة نهائيا مع القضية الفلسطينية، وباللغة التي يستخدمها افيغدور ليبرمان، شطب كلمة فلسطين من أجندة وزارة الخارجية الإسرائيلية، واستمرار الدفع بأشكال متعددة نحو سيناء.

بعض المتورطين في هذا المشروع الإسرائيلي الذي يوجد له صدى دولي، يتعاطون معه تحت مسميات مخادعة تماما، والكل يعلم ذلك، من بين هذه المسميات ( الإمارة الإسلامية، الدولة الإسلامية، عاصمة الخلافة الإسلامية، توسيع رقعة المقاومة، إعادة التماس والاشتباك مع إسرائيل!!!!)، وكلها أسماء ومسميات الهدف الرئيسي منها التعمية على المشروع الأصلي،وهو سلخ غزة عن المسار الفلسطيني كمقدمة لإنهاء المشروع الفلسطيني.

وهناك أطراف كثيرة داخلة في هذه اللعبة، إسرائيل تدعي أنها تشكو منها ولكنها لا تمنعها، وإلا فلماذا حين يقوم الجيش الإسرائيلي بمناورات عسكرية في النقب على أطراف سيناء، فإنه يترك كثيرا من كميات الأسلحة فوق الأرض لكي يحصل عليها بسهولة أولئك الذين يطرقعون ببعض الأعمال الأمنية في سيناء بين وقت وآخر، ولماذا انسحبت إسرائيل من قطاع غزة على النحو الذي شاهدناه بمشاهد سينمائية من الطراز الأول؟ ولماذا الانفاق مسموح بها على المكشوف، ومؤمنة تماما، ما دامت إسرائيل تشكو منها، وتدعي أن العناصر الإرهابية الخارجية، والأسلحة الممنوعة 0 الرهيبة) تمر من هذه الأنفاق؟

إنها مجرد بانوراما إعلامية زائفة يشارك فيها العديد من الأطراف، بالرقص على الإيقاع الإسرائيلي.

في عامي 2011 و2012 دخل إلى المسرح تحت الأضواء الكاشفة لاعب جديد كان موجودا دائما في الظلال، ولكن الاتفاق معه اكتمل في الفترة الاخيرة، وهو اللاعب الإسلامي، الذي وصل إلى سدة الحكم في مصر الآن، والذي لم يتمكن حتى هذه اللحظة من تكريس لوحة متوازنة بين ضرورات الدولة المصرية وفنتازيا الآيديولوجيا، حتى الآن الصورة غائمة تماما، وغير مؤكدة، ومثيرة للقلق، ومجزرة الأحد الاسود في شريط رفح الحدودي هي نتاج لهذا الغموض وعدم تحديد المسؤوليات، هل الإسلام السياسي الحاكم في مصر الآن في بداية خطواته مع مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس في حدود الرابع من حزيران1967، أم انه مع المشروع المناقض، المشروع الإسرائيلي الذي له صدى دولي، مع تزويق بعض الممارسات والأقوال، مثل تفجيرات خط أنابيب الغاز في سيناء على اعتبار أن هذا عمل مقاوم وممانع!!!

ومثل المزايدات في معادلة تنفيذ معبر رفح الحدودي مع قطاع غزة، وبعض الحديث عن دعم لقطاع غزة على صعيد الكهرباء والوقود!!!

المجزرة جاءت علامة فارقة, بالنسبة لمشروعنا الفلسطيني العربي، مشروع الدولة الفلسطينية، فإنه يتطلب أن تكون سيناء آمنة جدا، ومستقرة، وخالية من الاختراقات!!! أما بالنسبة للمشروع الاسرائيلي فإنه يتطلب أن هذا المشهد الذي تعودنا عليه ووصل إلى ذروته يوم الأحد الاسود، وفي انتظار أن نرى على الأرض ما الذي سيجري حقيقة، ولمن يكون الدعم المعلن والمباشر، للمشروع الفلسطيني العربي بدولة فلسطينية، أو للمشروع الإسرائيلي بإنهاء فكرة الدولة الفلسطينية عبر تكوين وهمي في سيناء.