خاص/ مجلة القدس، من أهم الأسسالتي يقوم عليها المجتمع هي الثقافة، والثقافة في المجتمع الفلسطيني تحتل مركزالصدارة في صناعة التحولات. جداول الثقافة التي تسهم في تكوينها متعددة، وهي تبدأمن الفنون، مروراً بالآداب، وتعريجاً على التراث، والعادات والتقاليد، وانتهاءبالعلوم ومجالاتها.

فالثقافة التيتتكون من خلال تعدد مصادرها، وارتفاع منسوبها، وتلوُّن صورها هي التي تحدد نسبةالوعي عند الفرد، وعند المجتمع. وهي التي تصقل عقل الانسان، وتتحكم بسلوكه،وأدائه، وعلاقاته، وتطلعاته.

من هذاالمنطلق تبرز أهمية دور القيادات في الإشراف الدقيق على البرامج التثقيفية، وفيتعميق الانتماء الفكري والاجتماعي والوطني لدى أبناء المجتمع، وذلك من أجل أن تكونهناك لغة واحدة، ورؤية موحَّدة.

في هذا المجالتبرز أهمية الدور الذي تؤديه المؤسسات، والجمعيات، والأندية، والمنتديات، والمراكزالتربوية والثقافية، وأيضاً المادة الفكرية، وأصول الممارسات، والعلاقات العامةالتي تقع في صلب الاهتمامات الحزبية والتنظيمية.

لمَّا كانتالفصائل الفلسطينية وأطرها السياسية، والنقابية، والجماهيرية هي المعنية بالجوانبالتعبوية، والبنيوية للمجتمع الفلسطيني، وخاصة المخيمات الفلسطينية التي تعيشأوضاعاً مأساوية على كافة الصعد، وهي التي في الوقت نفسه تتحمل أعباء المحافظة علىالثورة الفلسطينية، وأعباء التمسك بالأهداف الوطنية، والكفاح من أجل تحقيقها،وتتحمل أيضاً مسؤولية توفير الاستقرار للإنسان الفلسطيني حتى يكون متفرغاً لمهماتهالوطنية والاجتماعية، من أجل ذلك كله لا بد أن نتوقف أمام مجموعة قضايا جوهريةعليها يتوقف مستقبلنا ومصيرنا:

أولاً: علىالفصائل الفلسطينية أن تعيد النظر في برامجها وأساليبها التعبوية لأعضائها وأطرها،وبالتالي لأنصارها، وأن تضع ضوابط لخطابها السياسي والإعلامي فهناك من المتحدثينمن يثير فيك مشاعر التقزز والرفض المطلق للشخص ولأسلوبه، ولحزبه، وتتمنى بينك وبيننفسك لو أنَّ هذا المتحدث يأخذ إجازة طويلة جداً. وعلى الصعيد التعبوي الداخلييأخذ المربي الحزبي حريته الكاملة بإفراغ ما لديه من أفكار مأزومة في أذهان ونفوسأعضاء الخلايا وخاصة الفتوة والطلاب، والشباب الذي يغلي حماسةً، يتم ذلك كلهلتحقيق هدفٍ حزبي أو تنظيمي ضيق يتناقض تماماً مع التوجهات الوطنية، ويؤسس لجدرانمن الكراهية والحقد للآخرين من الفصائل الأخرى الذين يشاركونه الجغرافيا، والتضاريسالوطنية والاجتماعية والمصيرية. فالمربي الحزبي يقول ما عنده مستخدماً خبرته،وأمراضه النفسية لينشئ مجموعاتٍ حاقدةً عقولها مغلقة ترفض الحوارَ والتفاهم معالآخرين، وتؤمنُ بالعنفِ وسيلةً لحسم التباينات السياسية، وتحلل استخدام الأدواتوالأساليب كافة ضد من يعارضهم أو يتعارض مع توجهاتهم. إنَّ هذا الواقع التعبوييهدِّد النسيج الاجتماعي الفلسطيني، ويُدخل المجتمعَ في صراعات ومواجهاتٍ حزبيةٍوعشائريةٍ من الصعب التغلب عليها بسهولة.

ألا يستدعي ماسبق ذكره أن تكون هناك ضوابط داخلية تُلزم قادة الفصائل والأحزاب بمنهجية معينةملتزمة لا تتعارض مع القضايا الإستراتيجية وخاصة الوحدة الوطنية؟ لأنَّ غيابالوحدة الوطنية يعني الانقسام، والتشرذم، والدخول في دهاليز الفتنة، والبحث عنالمحرَّمات للاستقواء بها من أجل البقاء والسيطرة والوصول إلى السلطة.

ثانياً: إنَّالضرورة تتطلب التفاعل الايجابي بين المؤسسات والجمعيات والمراكز الثقافية، وتوحيدالبرامج، وعقد الندوات المشتركة، وإقامة ورشات العمل المحددةِ الأهداف والغاياتالتي بمجملها تؤسس لجيل فلسطيني وطني أكثر مما هو حزبي لأنَّ فلسطين هي أولاً وقبلكل شيء هدفنا الأساسي، وعندما تتعارض سياساتنا وتوجهاتنا مع المصالح الوطنيةالعليا للشعب الفلسطيني علينا كفصائل وكأحزاب أن نعيد حساباتنا بكل جرأة وشجاعة.

ثالثاً: إنَّعملية الانخراط الجماعي في معالجة القضايا الاجتماعية، وفي وضع البرامج التربوية،ورعاية المؤتمرات الثقافية، وتفعيل الأنشطة الفنية، ونشر الدراسات الموضوعية حولالأماكن التراثية والدينية والتاريخية لربط الماضي بالحاضر، وإنعاش جذور الذاكرةالوطنية، وتوحيد المنابع التراثية والفكرية لإيجاد مجتمع متَّزن ومتوازن مؤهَّللتحمل مسؤولياته الجسيمة هو المدخل الحقيقي لبناء مجتمعٍ متماسكٍ محصَّنٍ يدركمسؤولياته الوطنية والاجتماعية.

رابعاً: عندماتطغى المآرب السياسية على الأصول والجذور الثقافية تنخر فيها، وتمزِّقُ أنسجتها،وتشوِّهُ جماليتَها، وتُفقدُ الوطنَ أهمَّ مقوماته ودعائمه.

نحن جميعاً فيمأزق سياسي ووطني، والخيارات التي تواجهنا مرة مع أنَّ الخيارات بإرادتنا الثوريةستكون مفتوحة بما يخدم قضيتنا الوطنية.

خامساً: إنَّالقيم التي تعتزُّ بها الشعوب، وتصبح جزءاً لا يتجزأ من كيانها وشخصيتها تتعرضأحياناً لضربات قاصمة بسب الصراعات والنزاعات السياسية والسلطوية، وهذا ما يشكلبداية انهيار للمجتمع نفسه بعد أن يفقد مقوماته الأساسية المتعلقة بالشخصيةالوطنية.

والأمثلة علىذلك كثيرة، منها الديمقراطية بما فيها حرية التعبير، والعمل، والعقيدة، والنُظمالتي يتم إتباعها من أجل بناء مجتمعٍ خلاّقٍ مبدعٍ قادرٍ على التطور والتفاعلداخلياً وخارجياً.

أما النوعالثاني من أنواع الديمقراطية فهو ممارسة حق الانتخاب بعيداً عن أية ضغوطات، لأنالانتخابات هي التي تؤسس للاستقرار السياسي في الوطن، وهي التي تسهم في اختيارالقيادات الجديدة المؤهلة لتمثيل شعبها، وتحسم الخلافات بين الفرقاء المتصارعينعلى السلطة. هكذا يقول المنطق السياسي، لكن أحياناً يتم التعامل مع موضوعالانتخابات كعامل انتقائي وليس كاستحقاق وطني مُلزم لكافة أبناء المجتمع المعنيين،والأخطر أن الطموحات السياسية السلطوية، والارتباطات الإقليمية والدولية تدفع هذهالأطراف باتجاه التصعيد والعنف للحصول على المكاسب تحت شعار الغاية تبرر الوسيلة،وهذا ما يتطلب القفز عن موضوع الانتخابات، واللجوء إلى منطق القوة، والقهر،والتضييق، وتكميم الأفواه، وتجهيز الأغلال، وفتح أبواب السجون والمعتقلات لاستقبالضحايا غياب الديمقراطية والحرية. وللتستُّر على الجرائم المرتكبة يتم الحديثُالجميل عن الديمقراطية واتهام الآخرين بتعطيلها، بينما في واقع الأمر تلجأ هذهالقيادات السياسية الطموحة إلى تدمير البنية التحتية لكل القيم الديمقراطية من أجلأن لا تقوم لها قيامة، وفي الوقت نفسه تختبئ هذه القوى الحزبية السياسية خلفالأجهزة الأمنية، وأدوات القمع والإرهاب.