منذ الصباح الباكر ليوم أمس الخميس، إحتشد المستقبلونعند حاجز إيرز الذي نطلق عليه نحن فلسطينياً إسم معبر بيت حانون، ورفرفت الرايات الوطنيةوالفلسطينية خفاقة مع نسائم الريح العليلة المقبلة من البحر، إنتظاراً لوصول الشهداءووصول رفاتهم، بعد عقود من الغيبة هناك داخل مقابر أقامتها إسرائيل لهم حين أُستشهدواوالتي أصبحت تعرف بإسم مقابر الأرقام

بعض هذه الجثامين موجودة منذ قرابة أربعة عقود، ذابتالملامح وذاب اللحم عن العظم وأصبح تراباً، ولكن الصورة الأولى للشهيد هي الباقية متلألئةفي الضمير الوطني، متوهجة في ذاكرة شعب مناضل عظيم، شعبٌ أبدع في مشواره النضالي الطويلإبداعاً يفوق الخيال، بل أن بعض تلك الإبداعات صاغها الوعي الفلسطيني على هيئة أساطيرملحمية وتراجيدية مذهلة !!

ألم يشاهد الناس في قطاع غزة بأم عيونهم في مطلع السبعينياتقبور الشهداء وهي تتحرك؟؟ ألم تحدث في نهاية الثمانينات إنتفاضة عجيبة كبرى أبطالهاالأطفال وسلاحها الحجارة؟؟ ألم يظهر نمط جديد من الجنرالات هم الفتية صغار السن، سريعوالحركة، الذين كانوا بارعين في إطلاق قذائف الآر بي جي ضد الدبابات الإسرائيلية، فأطلقعليهم رئيسهم ورمزهم الشهيد الخالد ياسر عرفات، أحد ابرز رموز الكفاح المسلح في العالم،إسم جنرالات الآر بي جي ؟

أمس الخميس، على معبر بيت حانون، شمال قطاع غزة، ورغمالإجراءات الإسرائيلية المعقدة، التي تعودنا عليها دائماً، التي تهدف إلى التنغيص،تنغيص الفرحة، وتعكير العرس، وإطفاء الأضواء السعيدة المنبعثة في القلوب!! ولكن الشهداءعادوا، ها هم يعودون ثانية، تصوروا بالله عليكم، الشهداء، شهداء فلسطين، الفدائيونالفلسطينيون الذين اٌستشهدوا في عمليات عسكرية بطولية من نوع فريد، ألقى الجيش الإسرائيليالذي لا يقهرالقبض على جثامينهم بعد إستشهادهم !! قتلهم أولاً بالرصاص في معارك مواجهةحامية، ثم أصدر قراراً باٌعتقال الشهداء فى سجون من نوع خارق إسمها مقابر الأرقام!!ثم يدعي هذا الجيش الإسرائيلي إنه لا يخاف من الشهداء، فلماذا إذاً ألقى القبض عليهمبعد إستشهادهم وسجنهم في مقابر الأرقام؟؟

إنها أحد مشاهد التراجيديا الفلسطينية، إنه شيء خارجحدود العادي، إنه شيء فوق المألوف، أن تقوم دولة بكامل جيشها وعديدها وعتادها باٌعتقالالشهداء في مقابر يرتفع فوقها أرقام، مجرد أرقام، أما الأسماء المتعلقة بهذه الأرقام،فهي السر الأكبر في ملفات أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية .

تصوروا لو أن إسرائيل غير ما هي عليه من عنصرية وحقدوإنحدار أخلاقي !! تصوروا لو أنها وضعت هذه الجثامين في مقابر وكتبت إسم هذا الفدائيالمقاتل الشجاع فوق شاهد القبر، أما كانت المقابر ستتحول إلى حدائق جميلة للذاكرة ؟؟وإلى نبع يفيض بالحكايات المدهشة ؟؟ فلقد كان الجميع في الشرق والغرب سيعرفون من هوصاحب هذا الجثمان، وما هي حكايته، متى بدأ حبه الأول ومتى إنبثق وجعه الأول ؟؟ ومنأين أضاء إنتماؤه الأول لفلسطين ؟؟

الشهداء يعودون ثانية، إعتقلتهم إسرائيل داخل مقابرالأرقام، لكنهم يعودون ثانية، سوف تنبعث حكايتهم من جديد، كيف جرت تفاصيل المواجهةفي ديمونة في قلب المفاعل النووي الإسرائيلي؟ وما هو نوع الصرخات التي أطلقها ضباطالجيش الإسرائيلي حين فاجأهم هؤلاء الفدائيون الفلسطينيون في فندق سافوي ؟؟ الشهداءيعودون لكي نعرف منهم حكايتهم القديمة، إنه شيء أشبه بالقيامة، أن يعود شهيد إلى أهلهوشعبه بعد إعتقال جثمانه هناك في مقابرالأرقام، لكي تفتح الذاكرة الوطنية أبوابها علىوهج تفاصيل حكايته القديمة، من هو، ماذا فعل، كيف كان حبه الأول ؟؟ ما اسم حبيبته،وأيهما تغلب في نهاية المطاف عشق الحبيبة أم عشق فلسطين ؟؟

إستعدوا وقد عاد الشهداء إليكم، أن تحيوا معهم حفلاتقسم تتجاذبون فيها أطراف الحكايات عما جرى من لحظة الميلاد وحتى لحظة الاستشهاد.

ياأيها الفلسطينيون، انسجوا حكايتكم وطرزوها بالحريرالملون بكل ما تملكون من براعة وقدرة على الإبداع، ها هنا نحن باقون، تدور بنا الأرض،وتبعثرنا الرياح، وتمزقنا المجازر، ولنا وحدنا دون غيرنا سجون تستقبلنا ونحن أحياء،وسجون تستقبلنا حتى ونحن شهداء، ولكننا نحمل معجزات قيامتنا معنا، فننهض دائما من تحتكل أنقاض، نتحرر دائما من وراء كل قضبان، نعود دائماً من كل غياب، ننبثق دائما في تجلياتلم تكن معروفة من قبلنا!! أو ليست هذه كلها قيامات متواصلة لهذا الشعب الفلسطيني الذيإختاره الله ليكون صاحب القضية الأكثر ألماً والأكثر عدالة على إمتداد التاريخ الإنسانيكله.

بوركت في الصباح ،وبوركت في المساء ،وبوركت في أفراحكوأحزانك، ولولا أن البركة فيك هي هدية من الله تعالى، لما تمكنت يا شعبنا المناضل العظيممن الحضور بعد كل غياب، والحياة بعد كل موت، فلك المحبة والفخر والسلام .