بقلم/ محمد سعيد

استراح مثل أغنية تحت شجرة، حضر فؤاده شوقاً إلى منزل لم يتحمله الكون، فأخذ يصرخ أحبك يا بلادي، الموت قاطع طريق، وحش ينهش ابتسامات القلوب، حضر موته في لحظة اشد قساوة، في لحظة مدمرة لنهوض الأمل من كابوسه المذهل، في لحظة استولت عليه وعلى حياة الأحياء المنتظرين وداعهم المرعب بصمت صاعق، حتى فاض البحر وخطف دمعته الصاخبة وصوته الشجي وروحه الوثابة في خضمّ الجحيم واليأس والمنحدرات القاسية،

أبو عرب الصامد عاشق فلسطين، بطل الغربة، سنديانة العودة، ها هو يفارق الحياة بعد أن ملأ حضوره وجدان الفلسطينيين والعرب في المخيمات وأرض الوطن. مات في غربته مقهوراً صارخاً بأعلى صوته "هدي يا بحر هدي"، أغانيه في المناسبات الوطنية، حنجرته الشجية، وصوته المخملي العذب صدح في أرجاء المعمورة بأكثر من ثلاثمئة أغنية شعبية تراثية حملت حلم العودة الى فلسطين، وأوجاع الوطن ورائحة التراب تحت شجرة التوت. يقول في كلمات أغنيته هدي يا بحر هدي: لا بدّ نعود طوّل المشوار / يا توتة الدار صبرك على الزمان إن جار/ لا بد ما نعود مهما طوّل المشوار يا يا با / يا توتة الّدار حلّفتك برب الكون... إلى أن يقول: هدّي يا بحر هدّي طوّلنا في غيبتنا/ ودّي سلامي ودّي للأرض اللّي ربتنا/ وسلّملي على الزيتونة / على أهلي اللّي ربوني / وبعدا أمي الحنوني / بتشمشم بمخدتنا. ذاكرته معشقة بالحنين والقضية وحلم العودة.

استشهد والده خلال غزو الصهاينة لفلسطين عام 1948، وخسر ابنه الشهيد إبان الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 82، أهداه الرئيس عرفات الكوفية التي لم تفارق رأسه، أغانيه مليئة بالأحاسيس الجياشة تعرّف من خلال فنه وأغانيه الى الصف الأول من القيادة الفلسطينية، وطلب إليه الشهيد ماجد أبو شرار أن يسجل أغانيه وأهازيجه الشعبية والوطنية في "صوت الثورة"، فسجل أكثر من 16 شريطاً ضمت 140 أغنية، وتعرّف الى شعراء عرب أمثال أحمد فؤاد نجم، أحمد مطر، مظفر النواب، عبدالرحمن الأبنودي، يوسف الخطيب، والى الرئيس جمال عبدالناصر، والى ناجي العلي.

أبو عرب من قرية الشجرة قضاء طبريا، عاد اليها في سنة 2012 بعد غياب 64 عاماً وأجهش بالبكاء عندما شاهدها وأخذ يغني لها بما جادت به حنجرته الشجية، انطلقت مسيرته الفنية منذ سنة 1978، أنشأ أول فرقة عام 1980 باسم فرقة فلسطين للتراث الشعبي، وبعد استشهاد ناجي العلي سمى الفرقة باسم فرقة ناجي العلي، عاش الترحال متنقلاً بين تونس ولبنان وسوريا. أبو عرب فنان كبير أشهر أغانيه: من سجن عكا، الشهيد، دلعونا، يا بلادي، يا موج البحر، هدي يا بحر هدي، ما نسيتك يا دار أهلي ، مهما طال المشوار، راجعلك يا ديرتنا. غنى وهو على فراش الموت للأرض والوطن وحلم العودة، تلقف الناس على صفحات التواصل الاجتماعي تلك اللحظات الأخيرة من حياته بكثير من التعليقات. أبو عرب أيقونة الغناء الفلسطيني التراثي والشعبي. توفي في حمص في 3-3-2014. صدح للثوار وللأمل وللعودة، كان منشد الثورة بلا منازع غنى يقول: أنا لبعت سلام بطرف مرسال / ودمعي على فراق الوطن مرسال/ يا طير الي بالسما.. يا طير الي بالسما عالوطن مرسال بعد ما لدارتبكي على الغياب.

نكتب كلاماً وندرك معنى أن ترحل وتخلّف وراءك إرثاً كبيراً وعظيماً لأجيال سوف تحمل همّك كما حملته أنت ومن كان قبلك ومن سيجيء بعدك، بصدق واخلاص كما فعلت، ونعزي أنفسنا بأن نعود بهذه اللحظات المشوشة الى أغانيك وصوتك الساحر كلما اشتدت علينا الغربة وقست الظروف ووهنت الهمم، فتشتدّ العزائم وتقوى النفوس بصوتك الهادر كالفجر في أحلك الأوقات.