يوم أن سقط أبو جهاد، استكمل نيسان صفتة كأقسى الشهور.ففي نيسان ذاك، خسرنا عبد القادر الحسيني، أمل العنفوان الفلسطيني في وقته، وخلجة الإحساسبعز المقاومة، في قلب شعب بلغ الغدر به ذُراه. وفي نيسان، استُبيح دم القادة الثلاثةأبو يوسف والكماليْن، إذ بوغتوا في بيوتهم، لتفقد الثورة الفلسطينية، ثلاثة عقول، وثلاثهمم، وثلاثة أذرع ضاربة، من شأن نظراتها الثاقبة، ووعيها بالقوة، وتعاليها على الهزيمةوالقنوط؛ أن ترفع روح أمة بأكملها الى الأعلى. وبذات الطريقة، استبيح دم خليل الوزير(أبو جهاد) الذي كان في موضعه في تونس، على بُعد آلاف الأميال، ملتصقاً بجغرافيا وطنه،يتخاطر ويتواصل عن طريق الرسل والحمام الزاجل، مُعايشاً أوقات شعبه المنتفض، يحفظ وقائعالأيام، ويتلو فلسطين متدفقاً بكل تفاصيلها!

أريد لذلك الراهب الثوري، أن ينقطع كحبل وريد يضخ دمالحياة، الى قلب شعب ينبض. أمضى الرجل حياته بين عادٍ ومعْدوٍ عليه. كان الكفاح المسلحمتن حياته، وفي أجنابها تزوج وأنجب. غير أنه، في واقع الأسرة لم يعش حياة طبيعية. فأمجهاد، فيما هي تناقش في بيتها، مع الفتحاويين، أزمة مبكرة مع نظام الحاكمين في سوريا،فُجعت بسقوط طفلها نضال من الشرفة ثم أسلم الروح، وكان أبوه في السجن مع "الختيار"وثلة من المناضلين. موت الطفل، استحث السجانين على منحه حق تلقي العزاء، لكنه استبدلترف المواساة بمشقة البحث عن خيوط يمسك بها، فيُعيد لرفاقه حريتهم. كانت الواقعة تنمعن طابع حياة رجل، تتكثف ذهنيته في سياق لا ينشغل بسواه ولا يحيد عنه، حتى بات داعيةثورياً، يستأنس به الثائرون في كل مكان، حتى بات لا يتوافق اثنان، من أي بلد من المشارقوالمغارب، على بدايات ثورة تحرر؛ إلا وكان ثالثهما أحد اثنين أو كلاهما معاً: أبو عماروأبو جهاد!

اعتنق أبو جهاد الكفاح المسلح في سن مبكرة. أتيح لهأن ينسج خيوط الخلية الأولى، بمنطق العمل الفلسطيني المستقل وغير المرتهن لأيٍ من الرسمياتالعربية. وعندما تلاقى مع أبي عمار، وضع الإثنان صيغة الكبرياء العصية على محاولاتالاستقطاب التي تجعل من الوطني الفلسطيني ذيلاً لقامات سواه، على الرغم من أن الزمن،كان ممتلئاً بالقادة الكبار كجمال عبد الناصر. فالأجدر بالحكومات أن تمالىء الثوريينلا أن يمالئونها. نسج الرجلان ثوب الخصوصية الوطنية الفلسطينية. ولما باتت الثورة،عنصر التوازن النفسي والمعنوي الوحيد، للأنظمة العربية، بُعيد هزيمة 67 أي  في أردأ الأيام حتى ذلك التاريخ؛ كان عليهما بمايمتلكان من براعة وقوة أدبية مانعة للاستقطاب، أن يتعاطيا مع كل حلقات النظام العربيعلى تناقضاتها. هما صديقا المؤمن والشيوعي والقومي والقريب للغرب كما القريب من الشرق.فلا يجعلهما سخاء الثورة المنتصرة، في الجزائر، ولا عون مصر عبد الناصر، بدءاً من تشرينالثاني (نوفمبر) 1967 أقرب الى النظامين "التقدمييْن" بمصطلحات تلك الأيام،من قرب الثورة الفلسطينية الى شيوخ وحكام منطقة الخليج، التي كانت ما تزال تحت الوصايةالبريطانية. رسالة أبي عمار وأبي جهاد، هي أن القضية  قضية الجميع، ولا علاقة لنا بشكل الحكم، ونعذر كلسلطة فيما اختلفنا حوله، ومعيار القياس هو فلسطين دون سواها!

هزيمة 67 يجعلها الثوري منطلقاً مناسباً، لتأجيج النضالبأسلوب حرب الشعب. فمنذ الشهر الأول بعد تلك الهزيمة، استحدث أبو عمار وأبو جهاد، دوراتالأسبوع الواحد، على السلاح، في معسكر "الهامة" لكل من يستطيع الوصول منفلسطين والعودة اليها عبر حدود ما تزال رخوة. لم يكن التدريب التقليدي مطلوباً بطوابيرهومحاضراته، وكان ضرورياً اهتبال الفرصة، لتدريب عدد أكبر على السلاح الفردي والقنبلةواللغم والعبوة. وفي السياق، كان إرسال المجموعات لتعمل كخلايا، على النحو الذي يجعلأبو جهاد، كوكباً تنبثق عنه مئات خيوط العمل وأشعته. وما هي إلا أشهر قليلة، حتى بدأالعمل على نقاط الارتكاز المتوارية عن الأنظار قبل معركة الكرامة، ثم المتكثفة في التجمععلى حواف المرتفعات على مقربة من بلدة "وادي شعيب" نقطة الانحدار الى  وادي الأردن ونهره. وكان أبو جهاد، يتنقل من نقطةالى أخرى، بسيارة "الفولوكس فاجن" الصغيرة، ببدلة السفاري الخفيفة بألوانلباس الميدان، يبث الحماسة في الشباب، بغير خطاب ولا طنين، وبهدوئة المعتاد وكلماتهالقليلة الدالة. والشباب، بدورهم، كانوا يرون فيه رسول الروح التي تمنحهم الثقة بالنفسوبمشروع المقاومة، وبضرورات التآخي والمحبة والإيثار! 

كان لكاتب هذه السطور، شرف معايشة بدايات التحول الىالإطار المؤسسي، المشتمل على اللجان، التي تتابع شؤون خلايا الداخل وتجهز "الدوريات"التي ترفدها من الخارج. سمّاها أبو جهاد "دوريات" فيما هي مجموعات تتسللالى الوطن لتقاتل أو تنشىء نقاط ارتكاز بين الجماهير. فعلى اعتبار أن الوطن وطننا،فإن القوة الفلسطينية المسلحة، هي مجرد "دورية" مثلما هي طبائع الأمور فيالبلدان المستقلة. كان زمن أبي جهاد جميلاً، بل له بهجة الطريق الى تحقيق الأحلام،ولا يُقاس ذلك الزمن بالكوابيس التي صدّعت حالنا الراهن. وكانت إدارة "القطاعالغربي" في السلط، في شقة لا تزيد مساحتها عن ثمانين متراً، تنفتح على بستان صغير،يتسع بالكاد لثلاث شجرات تين. تتحول الشقة في المساء الى مهجع للنوم، ويضطر الصاعداليها، الى ارتقاء نحو ستين درجة، لكي يصل الى شرفتها، ويتناوب على حراستها الشبابالمتواجدون، منهم المهندس والطبيب والمعلم والطالب. وكلما ازداد "القطاع الغربي"وتكثف؛ كان أبو جهاد يزداد تواضعاً. وعندما تعاظمت الثورة، أحيلت الواجبات التفصيليةالى قادة آخرين، بينما أبو جهاد هو نائب القائد العام، وفي موقع المسؤولية عن قواتاتسع نطاق انتشارها، وغدت كتائب ووحدات عسكرية. كان أبو عمار رفيق دربه، قد أصبح علىرأس الشرعية الفلسطينية الثورية والسياسية، فيما الأوقات تزخر بالأحداث، والاشتباكمع المحتلين قائم في كل اللحظات!    

يطول الحديث عن مشوار امتد طويلاً الى نقطة انغماس الرجلفي مسؤولية جسيمة. بات أبو جهاد، يتحمل مع "الختيار" عبء متابعة وإدارة عظائمالأمور وبسيطها، في حياة شعب كامل. وفي أوقات الأزمات، ظل القائد أبو جهاد، مع"الختيار" والقادة الآخرين والشباب، ماكثين في معارك الدفاع عن الثورة، وفيمقاومة حملات التصفية والإلحاق، لحماية الثورة واستقلالية القرار الفلسطيني. وكلماواجهت القيادة الفلسطينية محنة أو حصاراً، ازدادت تشبثاً بخيار الثورة، ولطالما استفادأبو عمار أبو جهاد وأبو إياد، من الشقوق العربية، بمرونة سياسية عالية، تتوخى أمن الثورةوتعطيل الإجماع العربي على شطبها، وفي الوقت نفسه الاستمرار في القتال على الجبهاتوعلى الأرض الفلسطينية 

ومع اندلاع الانتفاضة الطويلة الثانية، التي جاءت كأبلغرد شعبي فلسطيني على محاصرة مشروع التحرر الفلسطيني، والحيلولة دون وصول المقاتلينالى خطوط التماس؛ بدأت مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني، إذ أصبح عمق الجغرافيا الفلسطينية،هو الجبهة الأوسع، الساخنة، مع الاحتلال. وكان طبيعياً أن يصبح أبو جهاد، هو الرجلالمعني بالمتابعة والتوجيه في كل لحظة، وكان أكثر العارفين بأن الشباب يفتقرون لمهاراتمعينة وتفصيلية، تتعلق بالأداء، فظل يرسل المُراد، مشروحاً اليهم، ويتلقى من الداخلكل الوقائع ويقدم مقارباته لحل الإشكالات، وتفعيل العمل وتصليب التنظيم، تساعده فيذلك لجان ومجموعات من أبنائه وتلاميذه المناضلين. 

إن واقع ذلك الدور، هو الذي جعل العدو يتقصد خليل الوزيردون سواه. فمشكلة الاحتلال كانت فيما يحدث في الجغرافيا الفلسطينية، لذا قطعت مجموعاتالقتل، آلاف الأميال، مستندة الى عشرات التفاصيل الاستخبارية واللوجستية المساندة،لإخماد الشعلة المتقدة، التي اختصرت المسافات وباتت موصولة بتفصيلات الجغرافيا والشعبالثائر! 

قضى أبو جهاد شهيداً وصار رمزاً لمرحلة عطاء نبيل وسخي.وفي الشام، التي طرده الحاكمون منها، جرى تشييعه في جنازة مليونية لم يحظ بها الحاكمالذي أمر بطرده، ولن يحظى بها الذين حاصروه لكي يقتلوه في طرابلس. وفي التشييع، حملتالجماهير سيارة أبي عمار، في جواب فصيح، على كل مطولات التخوين وتدابير الإقصاء. تألقأبو جهاد في موته، مثلما تألق في حياته. فإلى روحه كل الحب ولذكراه كل الامتنان!