فتح ميديا/لبنان، التشدد الفلسطيني حيال رفض التفاوض مع حكومة نتنياهو المتطرفة وبدء الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة ليسا السبب الأساس لتوقف ما يسمى الجهود الأميركية لإنتاج تسوية تاريخية بين الفلسطينيين وإسرائيل.

فالهدف الأصلي للابتعاد الأميركي عن المنطقة يمكن في منح الوقت الكافي للحكومة الإسرائيلية من أجل ترسيخ معالم القلعة التي لا مكان فيها للكيانية الفلسطينية وفق رؤية الدولة على حدود عام 1967.

ففي خطابه العام الماضي أمام الكونغرس الأميركي الذي تجاوزت تصفيقاته ال 22 مرة، حدد نتنياهو مظلومية إسرائيل الفاقدة للعمق الإستراتيجي، وخطورة قيام دولة فلسطينية مستقلة في خاصرة إسرائيل.

وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كرر نتنياهو المعزوفة ذاتها.

فيما الرئيس الأميركي لم يبلع وعوده وتمنياته عن الدولة الفلسطينية العتيدة فقط ، بل تماهى مع نتنياهو في تحميل الفلسطينيين مسؤولية وقف المفاوضات – العبثية بامتياز- وطالب السلطة الفلسطينية الاختيار بين المصالحة مع حماس والسلام مع إسرائيل .

 بعض المعارضين لسياسة رئيس الحكومة الإسرائيلية يأخذون عليه أنه ولأول مرة في تاريخ الحكومات الإسرائيلية توضع السياسة الخارجية في ثلاجة، فيما الواقع خارج إسرائيل يحتاج إلى دينامية استثنائية ومرونة عالية تأخذ في الاعتبار الواقع المتغير على المستويين الإقليمي والدولي، وأنه لولا المظلة الأميركية لكانت إسرائيل عارية أمام العالم.

يضيف هؤلاء :  بقاء الائتلاف الحكومي الحالي أهم لدى نتنياهو من السلام مع الفلسطينيين أو الحفاظ على علاقات جيدة مع أوروبا والعالم. وحذر هؤلاء من النبذ الذي ستواجهه إسرائيل على المستوى الدولي.

ورغم تلك المآخذ على حكومة نتنياهو فإن الأخير ينشط بلا هوادة من أجل ترسيخ يهودية القدس وإعلانها عاصمة إسرائيل الموحدة، وتكريس الواقع الاستيطاني الذي يستحيل تغييرهُ، مما يعني استحالة قيام الكيان الفلسطيني المستقل. بمعنى آخر تصبح الجغرافيا الفلسطينية مجرد جيوب متآكلة لا تصلح لأكثر من حكم ذاتي محدود، إن لم يكن أقل من ذلك.

وبناء على ما سبق نقول: ما يحصل من تسريع للنهب الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية هو قرار على المستوى الاستراتيجي، الاميركي – الاسرائيلي، لاستباق تبلور الخارطة السياسية العربية الجديدة، وبالتالي إنتاج بكائية إسرائيلية مستحدثة عنوانها المحيط العربي والإسلامي المعادي والمهدد لإسرائيل ووجودها، وعليه سوف تحاول إسرائيل ابتداع حلف جديد لمواجهة الخطر الإسلامي- العربي المحدق بوجودها، وبالطبع فإن الولايات المتحدة سوف تأخذ البكائية الاسرائيلية كما هي وتعممها على كل من له صلة بواقع الصراع في المنطقة على قاعدة جديتها وأهمية الوقوف مع إسرائيل المظلومة ضد الذين يهددونها.

في الثاني عشر من أيار الماضي استقال السيناتور جورج ميتشل، لأسباب ذكر بأنها خاصة. بعده بأربعة أشهر استقال دنيس روس، الذي انضمَّ إلى معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى- المدعوم من اللجنة الأميركي- الإسرائيلية- أي اللوبي المؤيد لإسرائيل. رئيس المعهد أعلن عن فخره بعودة روس إلى بيته الفكري. نذكر أن روس علل استقالته بأسباب عائلية أيضا.

بالطبع الاستقالتان مدورستان بعناية فائقة والهدف منهما إباحة تلك الفوضى العارمة التي تفتعلها حكومة نتنياهو بحق الأراضي الفلسطينية وفق خارطة أهدافها المحددة بدقة. فالولايات المتحدة معنية، خاصة في ظل التغيرات العاصفة بالعديد من دول المنطقة، بحماية قلعتها الإستراتيجية وبتوفير كل المناخات والظروف التي ترسخ مكانتها في المنطقة وعلى امتداد الخارطة الآسيوية كلها.

في صحيفة إسرائيل اليوم تاريخ 22-12-2011 كتب يورام اتينغر: العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل تتخطى الصراع العربي الإسرائيلي والمشكلة الفلسطينية، فهي تطيل وتحسن ذراع الولايات المتحدة الإستراتيجية.

يقول مدير مصنع إنتاج طائرات أف 16 بورت وورث: ساهمت إسرائيل بأكثر من 600 تحسين في هذا النموذج، مما يعادل زيادة مليارات الدولارات للشركة منتجة الطائرة.

كذلك تفيد المصادر المطلعة على التعاون الأميركي- الإسرائيلي المشترك في مجال الصناعة أن فئات شركات الصناعة الأمنية الأميركية تتمتع بإسهام فعال من قبل الخبراء الإسرائيليين، فيما يعتبر شراء إسرائيل لأي من المنتجات الأميركية شهادة كفاءة وأهلية للمنتج، بحيث يضاعف إنتاج الاقتصاد الأميركي.

إضافة لما سبق، تقول المصادر الإسرائيلية أن إسرائيل مختبر ناجح لظروف قتال بالنسبة لأميركا وتسهم في صناعتها الأمنية كما يسهم حانوت لمركز تجاري.

تضيف المصادر أيضاً: شركات مثل "أنتل" و "ميكروسوفت"  ومئات الشركات الأميركية الأخرى مدينة لتكنولوجيات إسرائيلية بتفوقها النسبي في السوق العالمية. فزعيم صناعات ال "هاي تيك" الاميركية جورج غيلدر يقول: الولايات المتحدة محتاجة لإسرائيل بقدر حاجة إسرائيل إليها.

كذلك نشير إلى التدريبات الدائمة التي يجريها الجنود الأميركيون في إسرائيل واستفادة الجيش الأميركي من التقنيات العسكرية الإسرائيلية، خاصة في مجالي كشف العبوات وتدريع المركبات العسكرية.

أندرو شابيرو، مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، قال أمام مجلس الشيوخ: إسرائيل هي حجر الزاوية لسياسة الولايات المتحدة في مواجهة إيران ومحاربة الإرهاب الدولي ومنع انتشار السلاح النووي. أضاف: للتقنيات الإسرائيلية دور حاسم في تطوير الأمن الداخلي والدفاع عن جنودنا.

يجب أن نعترف وبشكل جازم أن لا وجود لمشروع أو فكرة أو حتى مسودة في الأجندة الأميركية خاصة بتسوية للصراع الفلسطيني أو العربي- الإسرائيلي. فالسياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه هذا الملف تحددها إسرائيل دون سواها، فيما الدور الأميركي لا يتعدى الحراك التكتيكي من أجل ديمومة حصر امتياز إدارة الملف السياسي الخاص بالمشكلة في اليد الأميركية دون غيرها.

ما سبق لا يعني تمرُّد إسرائيل على السياسة الأمريكية، بل يعني دبلوماسية تكاملية بين الحكومتين، يتقاسم خلالها كل من ادارتي البلدين الادوار، من أجل استمرار الدور الأميركي الحاضن للأهداف الإسرائيلية بمنأى عن أي تدخل دولي، بما فيه الأمم المتحدة.

مطلع تسعينات القرن الماضي كثر المنظرون الذين اعتبروا الوجود العسكري المباشر في المنطقة دلالة دامغة على بدء تراجع مكانة إسرائيل من الشريك الإستراتيجي للولايات المتحدة إلى الحليف غير المعني ببنك الأهداف والمشاريع التي تنفذها الإدارات الأميركية المتعاقبة، إذ فات على المبشرين بالزمن الجديد حساسية إشراك إسرائيل -يومها- بشكل مباشر في عديد القوى التي أسهمت بتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، مثلما فاتهم تحشيد آلاف الجنود من دول عربية مختلفة لمواجهة جيش عربي ضمن تشكيل للائتلاف الدولي آنذاك. علماً أن التقنيات والتسهيلات اللوجستية والذخائر التي استعملها الجيش الأميركي كان مصدرها الترسانة الاحتياطية الموجودة بشكل دائم في القواعد الأميركية، وفي الحربين المتتاليتين على العراق.

قبل نهاية العام استكملت الإدارة الأميركية سحب جيشها من العراق. رغم كلفة تتجاوز ال 1100 مليار دولار وأكثر من 4500 قتيل وعشرات آلاف الجرحى، خرجت من بلد لم تستطع هيكلته بما يتطابق وبرنامجها المحدد. فالبلد لم يزل ملتبس الهوية والولاء ومشرعاً على احتمالات غاية في السوء والخطورة.

ورغم ضمان استمرار تدفق النفط العراقي، وربط عقيدة الجيش العراقي وتجهيزه وتسليحه بالإدارة الأميركية، إلا أن النفوذ الإيراني واضح وقوي بشكل يتفوق على النفوذ الأميركي. كذلك حراك الشارع العربي لم يبلغ مداه الأقصى بعد، ولم تنجل الخارطة الجيوسياسية لمخاض هذا الحراك ومعها ملامح المستقبل الذي يحدد شكل العلاقة الأميركية الجديدة مع تلك الخارطة. فأي لغة سوف تتبادلها الولايات المتحدة مع القادة الجدد للأقطار العربية، وما هي مشاريع التكتل أو التكتلات الجديدة تجاه العلاقة مع الولايات المتحدة وغيرها، وأي موقف سوف تتخذه حيال الصراع مع المحتل الإسرائيلي؟

من جملة الأسباب التاريخية للعلاقة البنيوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل توافقهما المشترك حيال عدم استقرار النظام العربي غير الديمقراطي والفاقد للعقل المؤسساتي الذي يرسي قواعد الاستمرار والديمومة، فيما إسرائيل بموازاة هذا الواقع حليف مستقر وموثوق به ومميزة على مستوى عراقتها الديمقراطية في المنطقة. فكيف إن أضفنا لهذه الأسباب ظاهرة الحكومات الإسلامية في غالبية الدول التي شهدت تغيرات شاملة على المستوى السياسي والثقافي، بصرف النظر عن كونها أتت من خلال صناديق الاقتراع؟

من هنا لا بد من وضع الملاحظات التالية:

1- رست الإستراتيجية الصهيونية على قبول النزعة العلمانية كمكون بنيوي للفكر اليهودي، بحيث تقاطعت مكونات الثقافة الصهيونية المختلفة عند تقديس الدولة، مع احترام الأبعاد الطقوسية والشعائرية والإيمانية كخصوصيات تتعلق بكل جماعة أو مدرسة ضمن الائتلاف المكون للصهيونية وبشكل تتقاطع جميعا مع فكرة تقديس الدولة، بمعناه غير المحدد الحجم والشكل  وبما يرضي جميع الشرائح الثقافية المكونة لها.

2- الكتلة التي تشكل جماعات الضغط في الولايات المتحدة- أيباك- لا تلتزم دعم إسرائيل اليهودية كانحياز سياسي لها فقط، بل تدعم الاحتلال والتوسع الإسرائيلي لأنه يعجل في الظهور الثاني للمسيح.

السيناتور الجمهوري والمرشح الأبرز للحزب نيوت غينغريتش الذي قال: "الفلسطينيون شعب تم اختراعه... والقادة الفلسطينيون مجموعة من الإرهابيين" كان يخاطب تلك الجماعات التي تشكل ثلث ناخبي الحزب الجمهوري.

3- تتعمد الحكومات الإسرائيلية إذلال الساسة الأوروبيين منذ مدة طويلة، رغم الانحياز القوي لغالبية الحكومات الأوروبية لصالح أمن ومصالح إسرائيل، ورغم عدم خروج القادة الأوروبيين على الطاعة السياسية للبيت الأبيض فيما يخص التسوية في المنطقة.

فمن جهة لم تزل إسرائيل تستثمر عار المحرقة بصفته عبئاً أخلاقيا على أوروبا كلها، ويدرك قادتها حساسية الأوروبيين من  هذه المسألة. ومن جهة ثانية عجزت إسرائيل عن نسخ اللوبي في العواصم والمدن الأوروبية، بحيث لم تزل أوروبا محافظة على علمانيتها العريقة، رغم الكثير من إسهامات إسرائيل بدعم حركات يمينية وعنصرية في أكثر من بلد أوروبي. كذلك فإن الفاتيكان كرمز للكاثوليكية في العالم لم يزل يتمتع بالصدقية الثقافية والروحية لدى غالبية الشعوب الأوروبية، ويدعو إلى حوار الأديان والثقافات، رغم تبرئة اليهود من المسؤولية عن صلب السيد المسيح.

وبناءً عليه فإن مشكلة الدول الأوروبية بهوياتها العلمانية تكمن في عجزها عن الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية وعن التنكر للحق الفلسطيني في إقامة الدولة على حدود العام 1967، ولا تستطيع إلا ان تفصل بين المذبحة بصفتها عارا أخلاقيا على المستوى الإنساني والتاريخي وبين  سلب إسرائيل للأراضي الفلسطينية والتصرف بها وبمصير شعبها.

4- الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي متفقان على تهديد القيادة الفلسطينية بين أن تختار المفاوضات والسلام أو المصالحة مع حركة حماس، فيما يدرك المعنيون بالأمر ومعهما العالم أن كلامهما لا يتعدى الصخب اللغوي الفاقد لأي معنى، اللهم الإمعان في استثمار الانقسام الفلسطيني لمزيد من تسهيل آلة العدوان والتوسع الإسرائيلي، لانه لا يوجد لاي من الشخصيتين أية دلالة على تبنيهما أية خارطة لاية تسوية قد تطرح كأساس لحل الدولتين بمعناه التاريخي والاخلاقي.

ولكي نعرف أهمية إسرائيل أكثر، يجب أن نقرأ ما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق- الذي كان قائداً لحلف الناتو أيضاً- حين عرف إسرائيل بانها: حاملة الطائرات الأميركية الأكبر من دون جنود أميركيين، والتي ترسو في منطقة حاسمة للمصلحة الأميركية، وتوفر على الولايات المتحدة نحو عشرين مليار دولار كل سنة.

 

ختاماً: فعلت القيادة الفلسطينية خيراً حين أقلعت عن المفاوضات العبثية، كذلك فعلت حين أعادت الملف إلى الأمم المتحدة كمرجع أممي وقانوني تحكم بمقتضى قوانينها وقراراتها ذات الصلة. ولا مفر من تعزيز وتفعيل العلاقات الفلسطينية الداخلية ومثلها العلاقات الفلسطينية- العربية وممارسة حرب متكاملة الفعاليات على المستويات الدولية والاقليمية والداخلية، تجرد إسرائيل مما تبقى من تأثير ونفوذ وتعزز الهوية الوطنية بالاوراق التي تعري سياستي اسرائيل والولايات المتحدة معا، وبالتالي تخترق جدار التفرد الاميركي الممسك بعنق القضية التي تستثمرها اسرائيل لغاياتها التوسعية والعدوانية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف والتبدد، ومهما طال الزمن.