هناك شخصيات لا يمل القلم -أو لوحة المفاتيح على الحاسوب حديثاً- الكتابة عنها ، ولا يمل القلب من ترداد اسمها، كما تستدعيها الذاكرة كلما همّ خطب لتأخذ من مواقفها وسيرتها دافعاً وحافزاً أو محركاً، ووقودا يشعل محرك الفعل فيتقدم الشخص  بعد أن نضب عنده الوقود، وافتقر إلى التمتع بجلال السماء واصباحة اليوم الجديد بعد ليل عصيب.

هناك شخصيات تحفر في وجداننا جداول رقراقة ، وتدس في عظامنا خلايا الصمود ، وتسير في دمائنا كالعبق، فنبقى أحياء وتدخل فينا مع كل شهقة لا تفارق أجسادنا .

قد لا نحس بها! فمن يدرك الحركات الانسانية اللاإرادية من شهيق وزفير ونظر وسمع والتفاتة وانفراج السرائر واهتزاز الأقدام وحركة الحلق والمضغ ... قلة يدركون عمق الأشياء وحكمة الحركات الصغيرة ، وقلة يدركون المدى الواسع للشخصيات التي تسللّت للقلب فاتخذت فيه مقعداً سامياً، كما زاحمت الكثير في العقل لتصبح من أدوات المعرفة وتشكيل فكرك وكلماتك .

من هذه القلة التي تعد على أصابع اليدين يبرز صلاح خلف شامخا بوجهه الصبوح المبتسم وجرأته الطاغية، وهو مع قامته القصيرة وجسده الممتلئ وصلعته الواضحة ونظراته الحادة يلقي عليك دون أن تدري قَسَم القبول مع النرجس ، فتشربه وتبتلعه وتتنفسه، وترتكب الإثم الكبير حين لا تدرك ذلك كما تدرك الشهيق وابتلاع اللعاب ودقات القلب وارتجاف الروح .

عندما قدمته للجمهور لأول مرة في حياتي وليس حياته كنت ارتجف رهبة ومحبة وأنسا ، وكنت أعد الساعات والثواني التي التقي فيها به ، وكنت فخوراً ومعتزاً بأنني وأنا الطالب في الجامعة أجالس زعيماً وقائداً كبيراً ، وخطيبا مفوها يحسب له  ألف حساب....  فعلتها وتنفسته ومازال فيّ وفي الكثيرين من أنفاسه الكثير .

عطر الكلام كلامه ، وقدرة التأثير في الآخرين قدرة حباه الله إياها .

 فتجد الحشود بالآلاف أو عشرات الآلاف تترقب خطابه الثوري النضالي الوحدوي في كل حين ، وتتتبع مواقفه الوطنية المتقدمة، وتسير باحثة عنه وبين كلماته والعبارات ما يروي عطشها الفلسطيني ، وما يبلل صدرها العربي الاسلامي الموجوع ، ويرطب قيظ أيامها، ما تجده حكما لدى أبو إياد ذو المعين الذي لاينضب .

بطل شعبي هو، وأيقونة ساحرة، وشذى يعطر أجواء الاختناق ، وأسطورة بابلية ، وليث كنعاني أصيل، وشعر معتق وقلب دام بحب فلسطين ، هكذا كان صلاح خلف، ذاك العملاق الذي ودع الطفولة مبكراً على وقع أقدام المحتلين الصهاينة وخاض فيهم حربا عسكرية وسياسية وامنية وجماهيرية حتى لقي ربه وفي جدول أعماله ودفاتر أيامه  سعى محموم وعمل كثير وقلم لم يجف بعد.

لم يؤثر عليه ان كان مسؤولا للأمن الموحد في منظمة التحرير الفلسطينية ، فلم يفقد شعبية طاغية أحاطت به ، فحيث فرّق بين هذه المهمة وبين السياسي المحنك والخطيب البارع والجماهيري المندمج مع الناس، وجعل لكل مجال عدته ، أحبته الجماهير واخلص له اصدقاؤه   ومؤيدوه من حركة فتح وخارجها.

هل كان شيخا صوفياً وهو الملتزم دينيا ، أم كان حكيماً أعرابيا لم يخرج عن حسان بن ثابت وامرؤ القيس والطّرمّاح . ودِعبِل الخزاعي والمتنبي وأكثم بن صيفي ..... أم كان شابا فتيا كالبكر بنزق وصدامية طرفة ابن العبد ، وفدائية وجرأة عبد الرحمن الداخل ومحمد الفاتح وخالد بن الوليد وعزالدين القسام، أم كان بحماسة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز للحق ، وجماهيرية جمال عبد الناصر وغاندي وياسر عرفات ؟!

لقد كان صلاح خلف كل هؤلاء العظماء وأكثر ، وأصبحنا نحن هو، وأولئك وصحبهم، وشيء منا، و أكثر، فما يدخل في مجرى الدم أو الأنفاس يشكّل الخلايا فيصنع الإنسان الذي أصبح نحن.

في ذكرى استشهاده هذا العام (2012) نمد له اليد مصافحين فنحس بخشونة بائنة رغم قلبه الدافئ ، ونحس صلابة نادرة في صوته الهدار رغم وضوح كلماته ودقة صقل ألفاظه .... ونستقي من ذكراه العطرة مداد قلمنا وزاد يومنا وحافز عملنا ولبنة جديدة تضاف لمبنى عقولنا فنترحم وندعو الله له الجنة .