تشهد غزة مرحلة مفصلية بعد عملية "طوفان الأقصى" وما خلفته من نواتج سياسية وعسكرية  واجتماعية واقتصادية كارثية على  قطاع غزة خاصةً وفلسطين عامةً، حيث تصطدم التحولات الميدانية بالتحركات السياسية الإقليمية والدولية، مما يطرح تساؤلات حول مستقبل القطاع في ظل تلك التجاذبات ما بين التصريحات الأميركية، وقرارات القمة العربية، والمواقف الإسرائيلية، والتحديات التي تواجه حركة حماس واستمرارية حكمها لقطاع غزة، مع دور رئيس ومرتقب للسلطة الفلسطينية.

- على ضوء تلك التحديات الإقليمية والدولية  والتجاذبات الدائرة والمؤثرة في مستقبل قطاع غزة يمكننا أن نلتمس ثلاثة احتمالات لمستقبل قطاع غزة تتمثل في مايلي:

- أولاً: أن تتم عملية إعادة تأهيل القطاع تحت إشراف دولي وعربي، يتمثل في تشكيل إدارة مدنية للقطاع بتمويل عربي ودولي، مع فرض إشراف أمني من أطراف دولية أو حتى قوات متعددة الجنسيات، وذلك ضمن مشروع إعادة إعمار غزة بعد الدمار الكبير الذي لحق فيها، خاصةً بالبنية التحتية والفوقية على السواء.
وفي هذا السياق، برزت تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول إمكانية تحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" عبر مشاريع استثمارية ومن ثم التراجع عنها، وهو ما يتطلب إزاحة حماس عن الحكم أو تقليص دورها السياسي والعسكري، غير أن هذه الطروحات تصطدم برفض فلسطيني وعربي واضح وكذلك برفض دولي كبير أيضًا، كما عبّرت القمة العربية الطارئة في القاهرة، والتي شددت على رفض أي مشروع يقضي بتهجير الفلسطينيين أو فرض وصاية دولية على القطاع دون توافق فلسطيني.

- ثانيًا: احتمال إعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، حيث يبرز خيار إعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة كبديل سياسي لإدارة شؤون القطاع.
وقد أبدت السلطة الفلسطينية استعدادًا مشروطًا لتحمل هذه المسؤولية، شريطة أن يكون ذلك ضمن اتفاق سياسي يشمل إنهاء الانقسام الفلسطيني وإجراء انتخابات جديدة وتوفير دعم عربي كي تتمكن من ذلك.
إلا أن هذا الإحتمال يواجه عقبات كبيرة، أبرزها استمرار الانقسام وغياب توافق فلسطيني داخلي، ورفض بعض القوى الإقليمية المؤثرة والداعمة لحركة حماس، إضافة إلى إسرائيل التي تسعى لاستمرار الإنقسام والتشرذم الفلسطيني والعمل  على ترسيخه لما يخدم اهدافها الإستراتيجية، في القضاء على مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران، بل قد تسعى إسرائيل إلى إبقاء حكم حماس، ولكن بصيغة جديدة وفق شروطها وبقاء القطاع تحت مظلتها الأمنية والعسكرية.

- ثالثًا: الإحتمال الثالث هو استمرار حكم حماس ولكن بصيغة مختلفة وجديدة تتوافق والرؤى  الإسرائيلية- الأميركية، رغم الضغوط الدولية لإنهاء حكم حماس المنفرد للقطاع، لا يزال احتمال استمرار حكم حماس قائمًا، وإن كان بصيغة مختلفة. لذا قد تلجأ حركة حماس إلى إعادة تموضع سياسي جديد، عبر تشكيل حكومة تكنوقراط تضم شخصيات غير محسوبة عليها، مع احتفاظها بقوتها العسكرية كضامن رئيسي لمستقبلها السياسي في المشهد الفلسطيني.
وتسعى حماس إلى تعزيز اتصالاتها مع وسطاء إقليميين ودوليين، مثل قطر ومصر وتركيا وايران  والولايات المتحدة، لضمان بقاء نفوذها في أي تسوية قادمة.
لكن استمرار حكمها قد يؤدي إلى إبقاء قطاع غزة في حالة عزلة دولية، مع استمرار الضربات الإسرائيلية، وهذا ما قد يعزز الضغوط الشعبية عليها في المستقبل، وانفحار المجتمع الغزي ضد حكمها بعد كل ما خلفه حكمها من آثار كارثية على قطاع غزة.

- على أية حال فإن أهم العوامل المؤثرة في تحديد مستقبل غزة تتمثل في أربعة عوامل رئيسية هي:

1- العامل  الإسرائيلي، إسرائيل تطرح عدة سيناريوهات لمستقبل غزة، تتراوح بين التهجير القسري، الذي رفضته معظم الأطراف، وبين فرض ترتيبات أمنية صارمة تجعل من غزة كيانًا منزوع السلاح.

2- العامل  الأميركي، وفق التصريحات الأميركية، خاصة تلك التي صدرت عن إدارة ترامب، تشير إلى رغبة واشنطن في إعادة تشكيل المشهد في قطاع  غزة بما يتماشى مع المصالح الإسرائيلية الأمنية والديمغرافية. لكن الموقف الأميركي يظل مرتبطًا بتوازنات داخلية وخارجية.

3- الدور العربي والإقليمي، القمة العربية الأخيرة أكدت على دعم غزة وغوثها إنسانيًا، كما أكدت على ضرورة وحدة الموقف الفلسطيني ودور السلطة الفلسطينية في قطاع غزة في اليوم التالي، وتشكيل لجنة مساندة من شخصيات فلسطينية غير حزبية أو فصائلية، وتكون تحت إشراف حكومة فلسطينية موحدة وإشراف عربي أيضًا، لكنها لم تقدم رؤية واضحة تمامًا في هذا الشأن، مصر بوصفها الجار الأكثر تأثرًا بالوضع في غزة، تسعى إلى منع الفوضى والتهجير، لكنها في الوقت نفسه لا ترغب في أن تكون مسؤولة عن إدارة القطاع. وفي حين مواقف بعض الدول العربية الأخرى منها من يدعم استمرار حكم حماس ومنها من يعارضه ويسعى لحلول  سياسية أكثر شمولاً.

4- الموقف والعامل الفلسطيني الداخلي، يبقى الانقسام الفلسطيني هو العقبة الكبرى أمام أي حل مستقبلي لغزة، فإذا لم يتم تحقيق مصالحة فعلية بين حماس و"فتح" والسلطة الفلسطينية، فإن احتمال الفوضى أو استمرار الحصار  على قطاع  غزة سيبقى قائمًا.
كما أن الحراك الشعبي الفلسطيني قد يكون مؤثرًا وقد يلعب دورًا مهمًا في توجيه المسار، خاصة في حال تصاعد الغضب الشعبي تجاه أداء أي من الأطراف الفلسطينية.

على ضوء ما سلف فإن الوضع في قطاع غزة لا يزال مفتوحًا على احتمالات عدة، لكن الأرجح أن المرحلة المقبلة ستشهد ترتيبات انتقالية معقدة، قد تتضمن مزيجًا من التدخل العربي والدولي، إلى جانب دور محتمل للسلطة الفلسطينية، وإن كان مشروطًا بتوافقات صعبة.
في النهاية يظل العامل الحاسم في مستقبل قطاع غزة هو العامل الفلسطيني، القادر على فرض إرادته في مواجهة الضغوط الدولية والإقليمية كافةً، وإيجاد حلول تنهي الإنقسام والحصار وتنهي المعاناة التي يعيشها سكان القطاع منذ ثمانية عشر سنة من الحصاد المر.