منذ وَطِئ الاحتلال على أرض وحدود فلسطين عام 1967، بدأت معه معركة الصمود والتحدي، لقد قارع الشعب الفلسطيني الاحتلال، ودافع عن وجوده وأرضه وثبت في وجه كل المحاولات التي عمدت على أن تزعزع صموده ووجوده على هذه الأرض، وكان الشهداء والأسرى والهدم والملاحقات، الاحتلال لم يكل ولم يمل في تنفيذ برامج وسياسته، والفلسطيني صامد في وجه الاحتلال ومحاولته النيل منه وطرده من أرضه. الاحتلال الإسرائيلي تعامل مع الفلسطينيين بموجب سياسات الاحتلال والقوانين المختلفة التي خضعت لها المنطقة وأهمها القانون البريطاني والأردني والإسرائيلي مؤخرًا، لدرجة أن الاحتلال كان يختار اللوائح التي تلائم أهدافه أكثر ليتم تطبيقها من هذه القوانين. كانت محاولات الاحتلال وما زالت تهدف إلى قرصنة الأرض والاستيلاء عليها.
الدعوة إلى تهجير الفلسطينيون والرقص على هذه الأنغام، منذ مجئ ترامب إلى البيت الأبيض ومعه العصا السحرية التي ستأخذ الفلسطينين من أرضهم إلى شتات الأرض وأصقاعها، هو حلم الصهيونية، وكان الفلسطيني حقيبة جاهزة للسفر. قد يتحقق شيئًا من هذا أمام المحاولات الإسرائيلية، لكن هذا ليس عنوان للاستقرار والسلام الدولي من جهة، وإسرائيل التي لا تريد أن ترى الفلسطيني على الأرض من جهة أخرى. في ظل هذه السياسات لا يبشر أبدًا أن ترى المنطقة الاستقرار والسلام.
على هذه الأرض، دفن الآباء والأجداد، وعلى هذه الأرض ارتقى الشهداء ، وعلى هذه الأرض أزهر العنب والزيتون والبرتقال. هنا استشهد عبد القادر الحسيني من أجل عيون القدس وهنا ارتقى الجنود والضباط الأتراك والعراقيين والأردنيين والمصريين واليمنيين والسعوديين والليبيين. هنا أقيمت الحواري بأسماء الجاليات التي جاءت إلى القدس من الأرمن والمغاربة والأقباط وغيرهم. ألم يستشهد ياسر عرفات هنا وهو الحاصل على جائزة نوبل للسلام، ألم يرتقي الوزير زياد أبو عين من أجل الأرض، هنا ألم يثني الوزير عساف أن يحمل على ظهره المعونات لأبناء الخان الأحمر وهناك الكثير الكثير.
لقد كان هم الاحتلال الدفع في المناطق التي تسمى "ج" بالفلسطينيين إلى مراكز التجمعات الفلسطينية الكبيرة، وهي التي تريد ضمها إلى إسرائيل مع المستوطنات الإسرائيلية، وإفراغ أماكن سكنهم والاستيلاء عليها. الإجراءات الإسرائيلية اتبعت سياسة التدحرج ككرة الثلج لتكبر وتتسع رويدًا رويدًا حتى وصلت إلى حد القتل المتعمد لأصحاب الأرض وكان أحدهم الشيخ سليمان الهذالين، سقط عندما صدمه جيب عسكري احتلالي وارتقى الرجل شهيدًا بعد مسيرة من النضال الطويل في مقارعة سياسة الاحتلال والتهجير. وأخطر ما واجهه الشعب الفلسطيني في تلك المناطق وهم من المزارعين والرعاة الذين قضوا حياتهم في تربية المواشي في البرية الفلسطينية، هو عدم اعتراف الاحتلال بالامتداد الطبيعي لهؤلاء المزارعين، فلا يسمح لهم بالامتداد على هذه الأرض وتشييد المنشآت السكنية والرعوية منها، ولم يسمح بإقامة أي من الخيم والبركسات للسكن فيها وإذا تم ذلك يقدم الاحتلال فورًا على هدمها، ولا يرخص لهم إضافة أي منشأة. كما أرهقهم الاحتلال في الدعاوي القضائية التي تقدموا بها إلى المحاكم الإسرائيلية لوقف إجراءات الهدم والترحيل، قصة لا يصدقها عاقل، لما فيها من تعقيدات أصابت حياة الفلسطينيين بالكَدِّرَ. كما واجه السكان الذراع الثاني للاحتلال وهو الاستيطان والمستوطنين الذين لهم في كل يوم قصة، وانتهاك لمسيرة حياة الفلسطينيين، حيث عمل الاستيطان على الاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين، ومضايقتهم في معيشتهم، وحركتهم وأرزاقهم. لدرجة أنهم استولوا على الأغنام، وقتلوا الكثير منها وسمموا الآبار وردموا كثيرًا منها، وأتلفوا الزرع فأضحت الناس في ضائقة كبيرة.
الصمود الفلسطيني أسطوري بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فقد رصدته كاميرات الإعلام، والبعض رواه الشهود، وأبناء المقاومة الشعبية، ولكن كثيرًا مما يعانيه أبناء المناطق الرعوية لم يذكر وبقي طي الكتمان. لقد كانت جهود السلطة الفلسطينية تعمل بخطى حثيثة وتقدم لهم المعونات في مجالات التعليم والصحة وتعزيز الصمود، ورغم معاناة التنقل والحواجز إلا أن ذلك لم يثني العزم على اسنادهم، وأسهمت المؤسسات الدولية في دعم صمودهم وثباتهم، لكن كل ذلك أمام الهجمة الإسرائيلية الواسعة، لا يعني شيئًا، إذ تتعطل وتتوقف أمام حملة إسرائيلية مضادة او هجمات المستوطنين.
عوامل التعرية التي يسببها الاحتلال هي أقوى بكثير من إجراءات قد تفرضها دول الطوق على دولة الاحتلال، وذلك لسبب بسيط هو الإمكانيات الإسرائيلية الكبيرة وقد تتخطى قيام الممرات التي يمكن توجيهها عبر الأردن ومصر، دعونا لا ننسى عندما قررت إسرائيل أن تفتح مطار رامون جنوب فلسطين في مواجهة خروج الفلسطينيين عبر مطار الملكة علياء الدولي، من منعها؟ أو قررت استعمال الموانئ البحرية لها حال أن أقدمت على التجهيزات لإخراج الفلسطينين من الضفة الغربية أو قطاع غزة. إسرائيل لماذا أقدمت على تدمير قطاع غزة، ولماذا أقدمت أيضًا على تدمير أجزاء كبيرة من مخيمات الشمال في الضفة الغربية؟ إنه قرار بالتهجير. الفلسطيني صبر وصمد واستشهد، لكن العوامل التي يملكها الاحتلال أكبر من قدرات الناس وإمكاناتهم والقدرة على الصمود، وهو أسطوري بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. أدوات الضغط على الاحتلال والغرب متوفرة لدى العالم العربي والإسلامي، فهي قوة لا تعادلها قوة لأن مصالح العالم مرتبطة بها. اليوم تعتبر المملكة العربية السعودية محور الكون، على أرضها سيتم اللقاءات، وعلى أرضها ستنتهي الحروب في هذا العالم. ترامب وبوتين سيلتقيان في المملكة العربية السعودية من أجل إنهاء حرب أوكرانيا، والقمة العربية ستلتقي في الرياض من أجل مواجهة التهجير. وهنا يمكن أن تكون الكلمة الفصل لا للتهجير، وإنهاء الاحتلال لفلسطين، لا للتوسع على حساب الأرض العربية.
إسرائيل الصغيرة يريدها ترامب أن تكبر على حساب الشعب الفلسطيني، الذي خسر %78 من أرضه التاريخية. إسرائيل بإمكانها التوسع العامودي إلى عنان السماء وبناء ناطحات السحاب إذا ما أرادت التوسع، وبهذا تحل مشكلتها وليس بالعدوان على الوطن العربي والتوسع على حسابه، هذا استعمار جديد.
وليس بالفزعات يمكن أن نحل مشاكلنا، عندما طفت على السطح قضية التهجير، هرع الجميع لإعلان الموقف الموحد، نحتاج أمام هذا التحدي الصارخ إلى خطة محكمة وأكبر من أن تكون فلسطينية، يجب على الجامعة العربية، ومنظمة العالم الإسلامي أن تحمل هذه القضية، ومعالجتها في إطار خطة العمل السياسي والاقتصادي لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني الذي قدم أغلى ما يملك، بقي على الآخرين أن يقدموا ما يجب، حماية للأمن القومي العربي الذي يواجه التهديدات بشكل جدي اليوم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها