هيفاء داوود الأطرش
بعد حصار كاملٍ على مخيم اليرموك دام أكثر من ستة أشهر وارتقاء ما يزيد عن 105 فلسطينيين جوعاً، تم دخول أول شحنة من الإمدادات الغذائية في 18 يناير/ كانون الأول الماضي، وسمح لبعض المحاصرين بمغادرة المخيم لأسباب إنسانية عبر المخرج الشمالي من المخيم الذي تسيطر عليه القوات النظامية السورية، وذلك بعد جهود مضنية لوفد منظمة التحرير الفلسطينية مع طرفي الصراع، اللذين برزت مواقفهما المتشنجة، حيث كانت ترفض رفضاً باتاً تطبيق أي حل للمحاصرين المدنيين فيه، انطلاقاً من اعتبار كل منهما أن المخيم هو منطقته ، من باب تثبيت شرعية وجوده في هذا الصراع، ولو كان على حساب المسائل الانسانية، وهذا ما انعكس سلباً عليهما، في ظل تدهور الوضع الانساني لقرابة 7000عائلة فلسطينية هناك، مع انعدام كافة مقومات الحياة، مما سبّب إحراجاً دولياً لهما ولكل حلافائهما، خاصةً بعد التحرك الدبلوماسي الدولي والمكثف للقيادة الفلسطينية بهذا الشأن.
ولقد تسلمت الحكومة السورية والقيادة العامة ما يقارب ستة آلاف حصة غذائية من الأونروا، تضمنت مواد ضرورية للغاية،من أجل توزيعها على المحاصرين؛ وقد اتُهم عناصر القيادة العامة بسرقة معظم الحصص؛ واعتبرت منظمة الأونروا تلك المساعدات في الظروف الحالية بمثابة إنقاذ للحياة ، ولقد رافقت طريقة إدخال المساعدات للمحاصرين الفلسطينيين في اليرموك مصاعب جمة ،تجسدت بعدم المسؤولية واللا مبالاة التي تحكمت بآلية إدخال المساعدات وإخراج المرضى والنساء الحوامل وطلبة الجامعات، ولم تخل الأمور من إلقاء التهم من قبل طرفي الصراع على بعضهما وتعطيل عمليات إنقاذ أرواح الآلاف المشرفين على الموت، هذا الموت الذي أصبح أكثر رحمة بعيونهم من انتظار لقمةٍ مغمسةٍ بالدم.
إن هؤلاء المدنيين المحاصرين هم بحاجة لتواجد الأونروا وأعمال المساعدات الإنسانية والتوسع فيها داخل المخيم على مدى شهور وليس أيام ، كما صرح المتحدث باسم الأونروا كريس جونيس، لأنهم بحاجة لمزيد من الدعم طويل الأجل ،ويجدر الذكر أن كثيراً من العائلات المحاصرة لم تستطع الوصول لمكان توزيع المساعدات الغذائية بسبب المرض والوهن الشديدين اللذين ألمَّا بها نتيجة انعدام الغذاء والعلاج ، حتى أن المساعدات التي دخلت قد نفذت بسرعة هائلة ولم تتعد الأسبوع بسبب الجوع المستشري، حيث كانت الحصة الغذائية المخصصة لعائلة واحدة ، قد أُعلن أنها تكفي لمدة أسبوعين، وما حصل هو العكس تماماً، بالإضافة إلى عدم وصول بقية الطرود الغذائية لنحو 1200 عائلة.
لكن قضية اعتقال قرابة الثلاثين شخصاً، معظمهم من الفلسطينيين، أثناء عملية إخراج الطلاب من معبر اليرموك الشمالي، بالإضافة إلى قصف المخيم، وتأخير دخول وفود المصالحة التي أقرت بعد انسحاب الجيش الحر من المخيم بحجج أمنية وإدارية، وانقطاع دخول المساعدات الغذائية بشكل مفاجئ، بعد أسبوع من دخولها فقط ،قد أثار غضب أهالي مخيم اليرموك المحاصرين وأفقدت الثقة من قبلهم بتطبيق الاتفاق المذكور سابقاً، وهذا ما انعكس عملياً على ردة فعل أهالي العشرات من العائلات المحاصرة المتواجدين خارج المخيم، والذين بدؤوا بتقديم طلبات للأمن السوري من أجل إخراجهم، والذين بدؤوا فعلياً بإخراجهم بشكل جماعي وملحوظ فور انقطاع المساعدات، لأن أهل مكة أدرى بشعابها، ولا يمكن لبشر ان يعيد التجربة مرة ثانية حيث الجوع والمرض وفقدان العلاج بشكل كامل كما فقدان الضمانات؛ فقد تجاوز عدد شهداء اليرموك منذ بداية الأزمة حتى كانون ثاني 2014 م الـ1600 شهيد، يضاف إليهم ما يقارب 400 شهيد في المخيمات الفلسطينية الأخرى.
وفي هذا السياق حذرت المفوضة السامية لحقوق الانسان في الأمم المتحدة نافي بيلاي من أن منع المساعدات عن المدنيين المحتاجين يرقى الى مستوى "جريمة حرب".
ولكن ما العمل إذا اجتمع الكل الدولي والإقليمي والعربي في خانة الخصم والحكم في ذات الوقت .
وإننا نلحظ بأن الدعوات بتدويل قضية مخيم اليرموك قد بدأت تثمر فهاهي الأصوات تتعالى من سياسيين وبرلمانيين أوروبيين لرفع المعاناة عن اللاجئين الفلسطينيين المحاصرين هناك؛ضمن عريضة وجّهت إلى الاتحاد الأوروبي وللمجتمعين في مؤتمر "جنيف 2"، مشيرة إلى الحالة الخاصة للاجئين الفلسطينيين الذين لا يملكون أي وثائق تسمح لهم بالحركة خارج سورية، إضافة إلى عدم حصولهم على نفس حقوق اللاجئين السوريين في الدول التي يفرون إليها؛ لكن ما يُخشى منه هو فتح باب هجرة الفلسطينيين إلى الدول الأوروبية ، كمصير فلسطينيي العراق وقبلهم فلسطينيي لبنان، وتشتيتهم بعيداً عن وطنهم فلسطين خاصة بعد اقتراحات ودراسات أوروبية أطلقت في ذات الموضوع .
إن محاولة توريط الفلسطينيين في سوريا في أتون الحرب الدائرة هناك لهو الوصفة الجاهزة للقضاء على صوت العودة الفلسطيني، بتشتيته في أصقاع العالم؛ والسؤال هنا لماذا يُعتقد أن ما يشكله الفلسطينيون من نسبة المجموع السكاني السوري وهي 2,5 هي قضية مصيرية لسوريا ولطرفي الصراع، وما هو تأثير هذا الوجود الفلسطيني الذي سيغير في المصير السوري؟ في الحقيقة لا تأثير يذكر، إنما توقيت مناسب خُطـِّط له منذ سنوات، ويحضرني هنا الاتفاقية السرية التي سربت في الصحف العالمية عام 1990م والتي كان عرابها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر وكان من أبرز بنودها ما يجري ويطبق في المنطقة العربية منذ قرابة العشر سنوات الأخيرة؛ ومنها ما يخص الشأن الفلسطيني .
فمنذ أن درجت سياسة فرض عدم الحياد بالنسبة لقضايا الشرق الأوسط، لم يستطع العرب التخلص منها حتى لحظتنا هذه، وما طبق على اللاجئين الفلسطينيين في سوريا من هذه السياسة، جعلهم يعاقــَبون حتى آخر نفسٍ فيهم.
لذلك على القيادة الفلسطينية اتباع طرق أنجع في حل قضية حصار مخيم اليرموك وإنقاذ بقية المخيمات التي سيؤول مصيرها إلى ذات مصير اليرموك مثل مخيم خان الشيخ، وتداعيات الأزمة عليهم.
إن مخيم اليرموك سيستعيد عافيته في حال طبق طرفا الصراع السوري الأعراف والقوانين الدولية المذكورة في حال الحروب والنزاعات المسلحة، والذي سيؤدي إلى بناء رصيد سوري يستطيع إقامة علاقات فلسطينية سورية حالياً أومستقبلاً والانطلاق من هذا الرصيد لتحديد نوعية العلاقة والتي يجب أن تساهم في تطويركلا البلدين، وإن حل أزمة اليرموك والمخيمات هي بداية هامة في بناء هذا الرصيد الجديد.
أيضاً تستطيع القيادة الفلسطينية التعاون حالياً مع الحكومة السورية في المجالات المتاحة والتي تخدم اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، بغض النظر عن الموقف السياسي المحايد للاجئين الفلسطينيين في سوريا من الازمة، كما حصل في حل قضية المخطوفين اللبنانيين بوساطة فلسطينية، وفي السياسة المصالح يجب أن تكون متبادلة، والكُرة مرة هنا ومرة هناك.
وبعد انقطاع دخول المساعدات المقدمة من الأونروا يجب التأكيد على استمرار ضرورة فك الارتباط بين قضية إدخال المساعدات الغذائية والدوائية وطواقم طبية للمخيم من جهة وقضية انسحاب المعارضة المسلحة نهائياً ولو عادوا من جهة ثانية، خاصةً بعد الاخبار التي تم تناقلها عن عودة دخول عناصر من المعارضة المسلحة لاختطاف مطلوبين لها، والتي ليس لعدم عودتها أي ضمان بالمطلق ما دام الأداء على هذه الشاكلة، وكذلك يجب وقف إطلاق النار، فما هو الداعي لإطلاق الهاون مؤخراً والذي تزامن مع وقف الإمداد الغذائي بعد بدئه بأسبوع، مما أدى لخروج العشرات من العائلات وبموافقات أمنية.
وسيسجل لطرفي الصراع في حال التزامهما بالاتفاقات الموقعة، قدرتهما على تطبيق القوانين الدولية وحقوق الإنسان، وفي هذا الإطار تحديداً يجب التوجه بقوة إلى المجتمع الدولي والدول الداعمة لطرفي الصراع السوري دولياً وعربياً وإقليمياً للضغط.
وإن كانت المعارضة المسلحة تريد مخيم اليرموك كامتداد جغرافي وعسكري وسياسي لنفوذها على الأرض كما كانت تدعي، فلم لم تسمح للمدنيين سابقاً بالخروج من المخيم أولاً من نساء وأطفال وكبار السن من الجنسين، حيث كان من الممكن تأمينهم ووضعهم ضمن خدمة الأونروا المباشرة، ثم إخراج الرجال والشباب لمن يريد الخروج مع تأمين الحماية الكاملة لهم ضمن توخي الحذر في إلقاء التهم لهم من طرفي الصراع أثناء وصولهم لمناطق تحت سيطرة المعارضة أو النظام منعاً لاعتقالهم، فليس كل من تفوه بموقف كلامي سابق يعتبر مناصراً للنظام، وليس كل من أسعف جريحاً أو استقبل لاجئاً سورياً يعتبر مناصراً للمعارضة.
ولكي يستعيد مخيم اليرموك عافيته يجب التخلي عن عقلية الانتقام من الطرف الآخر بطريقة الضغط على طرف ثالث وإقحامه في هذه المعادلة الخاسرة مستقبلاً للطرفين، ألا وهو الفلسطيني، الذي لا علاقة له بما يجري، وإن كان هناك تدخل جزء فلسطيني متمثل بفصيلين خارج منظمة التحرير الفلسطينية بالأزمة السورية فهذا لا يجيز عقاب هؤلاء الأطراف للاجئين الفلسطينيين.
وبما أن كلا طرفي الصراع متورطان باستقطاب جزء فلسطيني سياسيٍ سواء من القيادة العامة أو حركة حماس، فالحل لقضية اليرموك وباقي المخيمات إعلان الحكومة السورية والمعارضة عن استغنائهما عن استخدام هذا الجزء الفلسطيني وذلك برفع الغطاء عنهما والاتفاق كل مع حليفه الفلسطيني بعدم التدخل في الشأن السوري، وتسليم أسلحتهم .ويمكن لجوء القيادة الفلسطينية في هذا الإجراء إلى الدول المعنية بحراك سياسي سريع من أجل الضغط على طرفي الصراع لإنجاح هذا الحل، والتأكيد في النهاية أن معظم الإجماع الفلسطيني في سوريا هو محايد في هذا الصراع.
أيضاً إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين ، وتسليمهم للسلطة الفلسطينية عن طريق الصليب الأحمر الدولي بوجود وفد من منظمة التحرير الفلسطينية حسب الأعراف الدولية.
وفي الحل العام وبعد انتهاء أزمة المخيم الآنية يتم الاتفاق بين الأطراف المعنية الفلسطينية والعربية والدولية، من أجل حل مشكلة المهجرين الفلسطينيين من سوريا واللاجئين الفلسطينيين في سوريا، والحل الأمثل بعد تدمير البنى التحتية في بعض المخيمات ومخيم اليرموك والتي ذكرت في تقارير الأونروا، وبعد المجريات السياسية التي توحي بإفراغ سريع للاجئين الفلسطينيين من سوريا، لا بد من إدخالهم إلى أرض الوطن ، دولة فلسطين، أسوةً بإخوتهم اللاجئين في الضفة والقطاع، فوطنهم أحق بهم.
ثم تأهيل المتورطين الفلسطينيين مع طرفي الصراع ، ضمن مؤسسات داخلية خاصة تابعة لوزارة الداخلية الفلسطينية بعد تسليمهم لها، وبتطبيق برامج خاصة بهم ، تعيد لهم توازنهم الانساني، من أجل مساعدتهم على الاندماج لاحقاً في المجتمع المحلي الفلسطيني.
إن الأزمة السورية سوف يطول أمدها وبعدة أشكال حسب كل التوقعات، والتحليلات وإن بدت الأمور في طريقها للحل؛ وحسب المعطيات الموجودة على الأرض، فإن قضية اللاجئين الفلسطينيين يتم ربطها بطريقة معينة بالوضع السوري العام - وإن كان الإجماع الفلسطيني على الحياد - فالشمس لا تغطى بغربال.
وإن التحليلات الاقتصادية تتوقع أن سوريا بحاجة لسنوات عديدة لاستعادة الاحتياطي النقدي الذي استنزفته في العام الأول من الأزمة، وبسبب الحرب الدائرة هناك، لأن استعادته ستسهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي السوري، وأعتقد أن أي حل قادم لسوريا فيما بعد سيجبرها أن تكون مؤهلة ليتحول مصيرها في ظل أي حكومة قادمة، ووقوعها تحت سياط الديون الدولية، وبالتالي العودة لشكل السيطرة الاستعمارية القديمة، أي التبعية الكاملة حتى دون أي نكهة استقلالية؛ بل سيتراجع الوضع في سوريا أكثر مما كان عليه سابقاً .
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها