بعد 13 جولة انتخابية لرئيس الجمهورية اللبنانية، بعدما انتهت ولاية ميشال عون، الرئيس السابق في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2022، تم يوم الخميس 9 كانون الثاني/يناير الحالي انتخاب قائد الجيش اللبناني، جوزاف عون رئيسًا جديدًا للبنان بأغلبية 99 صوتًا من أصل 128 في الجولة الثانية، وبذلك طوى صفحة الفراغ الرئاسي، وفتح آفاق مرحلة جديدة من تاريخ لبنان الحديث في بلد تعصف به الأزمات من كل حدبٍ وصوب، أزمات سياسية واقتصادية مالية واجتماعية وأمنية وبيئية. ولم تكن الولادة لانتخاب رئيس للبلاد سهلة، وإنما جاءت بعد مخاضٍ صعب وتحولات داخلية وعربية وإقليمية ودولية، من أبرز التحولات التي سبقت انتخاب الرئيس الجديد:
أولاً تراجع مكانة حزب الله في المشهد اللبناني في أعقاب عملية البيجر واغتيال إسرائيل لعدد كبير من قيادات وكوادر الحزب التنظيمية والسياسية والعسكرية وفي مقدمتهم السيد حسن نصرالله، الأمين العام السابق للحزب، وخليفته المفترض هاشم صفي الدين وفؤاد شكر وقيادة قوة الرضوان وفي مقدمتهم إبراهيم عقيل، ما سحب من يد الحزب الفيتو في ملف الرئاسة وغيرها من الملفات الداخلية؛ ثانيًا الحد من مكانة الدور الإيراني في الساحة اللبنانية بعد تراجع مكانة حزب الله؛ ثالثًا سقوط نظام الأسد الابن وتأثيره على لبنان؛ رابعًا انسحاب مرشح الثنائي الشيعي النائب سليمان فرنجية، وكذلك زياد بارود من المنافسة على كرسي الرئاسة اللبناني؛ رابعًا التوافق السعودي الأميركي والفرنسي على دعم قائد الجيش جوزيف عون، وهو ما مهد الطريق لانتخابه رئيسًا للبنان، الذي أنهى مرحلة صعبة زادت عن عامين وثلاثة اشهر من الشغور الرئاسي، وعدم وجود حكومة منتخبة من مجلس النواب، حيث بقيت حكومة تصريف الأعمال بقيادة نجيب ميقاتي حتى الآن.
وكما يعلم المتابعون للوضع اللبناني، فإن تعطيل الهيئات الرسمية اللبنانية لم يكن المحطة الأولى، لا سيما أن لبنان شهد إرباكًا وأزمات متواصلة منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، الشهيد رفيق الحريري عام 2005، وزادت الأزمة تفاقمًا بعد اتفاق الدوحة عام 2008، حيث عطل حزب الله إعادة ترتيب شؤون البيت اللبناني، نتاج استخدامه حق النقض الفيتو طيلة المرحلة الماضية الممتدة على مساحة 16 عامًا. لكن المعطيات والتحولات الذاتية والموضوعية، وبفعل تكامل الحاجة الداخلية للخروج من نفق الشغور الرئاسي، والعربي والإقليمي والدولي من خلال ضغوط واشنطن وباريس والرياض فتحت الأبواب المغلقة أمام الرئيس عون.
وكان لانتخاب عون رئيسًا أثر إيجابي على قطاعات الشعب اللبناني المختلفة، لا سيما أن خطابه الأول حمل في طياته تفاؤلاً في أوساطهم، حيث أكد أن السلاح الوحيد في لبنان، هو سلاح الجيش اللبناني، ولن يسمح بازدواجية السلطة، ولا بالثلث المعطل، وتأكيده على أنه سيعمل على انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية، مع أن دولة الإبادة الجماعية الإسرائيلية ما زالت حتى اللحظة الراهنة تمارس البلطجة والاعتداء على الأراضي اللبنانية في الجنوب بذرائع شتى، كما حصل في طير دبا وغيرها من القرى والبلدات اللبنانية، وكأنها أرادت القول، إنها ما زالت صاحبة اليد الطولى في الجنوب اللبناني، وردًا على خطاب الرئيس الجديد. مع أن هوكشتاين أكد للثلاثي الرئيس الجديد ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة، أن إسرائيل ستنسحب من الأراضي اللبنانية في 26 كانون الثاني/يناير الحالي.
وبدا واضحًا أن خطاب ما بعد القسم للرئيس عون، رسم من خلاله خطة عمله القادمة، وأهمها سيادة الدولة على الأراضي اللبنانية كافةً، وإعادة الاعتبار للسلم الأهلي اللبناني، وللقضاء اللبناني، ونزع فتيل المحاصصة في هذا الشأن من خلال تعديل قانون القضاء، ومحاربة مظاهر تشوه المنظومة اللبنانية وخاصة الفساد، ومعالجة قضية أصحاب الودائع في البنوك، وإيجاد حلول للأزمة المالية الاقتصادية، وخاصةً تمكين الدولة من سد العجز في تسديد الديون المتراكمة على لبنان، والتي بلغت نحو 30 مليار دولار أميركي، وفتح باب الاستثمار العربي والدولي، وتحسين العلاقات اللبنانية العربية والإقليمية والدولية، وإطلاق ورشات عمل لإيجاد حلول للأزمات اللبنانية المختلفة، ولفت الانتباه في خطابه إلى التحولات الجديدة والنوعية في خارطة الشرق الأوسط، التي ستحمل تغييرات في حدود عدد من الدول في الإقليم.
اتسم خطاب الرئيس جوزاف عون بالمسؤولية، وأظهر من اللحظة الأولى لولايته، أنه رجل دولة، بيد أن حجم الأزمات العميقة والتحديات الملقاة على عاتقه كبيرة ومتشعبة، ولن تكون مسيرته سهلة نتيجة التشبيكات الداخلية والخارجية، وللشروع بخطته حدد يوم غدٍ الإثنين موعدًا للاستشارات مع الكتل اللبنانية لاختيار رئيس حكومة جديد، وتفعيل مؤسسات الحكومة والدولة عمومًا، لإعادة الاعتبار لدورها في حياة اللبنانيين كافةً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها