"البنية الفكرية والسياسية" للرئيس الأميركي السابق والقادم دونالد ترامب باتت أمراً معروفاً على نطاق عالمي. وهذه "البنية" هي الجانب الأساسي المتعلق بشخص ترامب غير المختلف عليه ليس على صعيد العرب والإسرائيليين البارزين فحسب، وإنما أيضاً على صعيد البارزين في العالم سواء كانوا سياسيين أو عسكريين أو إعلاميين أو باحثين. أما الأمر المختلف عليه بين معظم هؤلاء فينصّب تحديداً على طبيعة مفاعيل إفرازات خلايا دماغ الرئيس ترامب وأثرها على قراراته المستقبلية التي يصعب تقديرها أو تخمينها. وهذا الواقع هو الذي جعل المحللين يخلصون دوماً إلى وضع سيناريوهات بخصوص قراراته المستقبلية دون أن توفر أي قدرة لدى هؤلاء المحللين على وضع الإصبع عليها بدقّة أو بيقين.

ومع كثرة المصادر الإسرائيلية التي تحدثت عن حقيقة البنية الفكرية والسياسية لترامب، فإنني وجدت أن أشملها وأبلغها هو ما جاء في افتتاحية صحيفة "هآرتس" في عددها الصادر بتاريخ 8-11-2024. فقد أجملت الافتتاحية مكونات تلك البنية على أساس أن ترامب (ويشاركه فيها- وفق استخلاص الافتتاحية- رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو) هو من المؤمنين بأفكار "انعزالية قومية"، وكراهية للأجانب، والإعجاب بالأثرياء، واحتقار المؤسسات والقواعد والقوانين، كي تكون سلطته هو (وليس أحداً غيره) سلطة بدون كوابح. هذا، (علاوة على نجاحه) في تحويل الحزب الجمهوري الأميركي، إلى مشروع لعبادة الشخص.

وسواء أحببنا هذا الواقع أم كرهناه، فإن عودة الرئيس ترامب ستحمل في طياتها تغييرات جذرية ليس داخل الولايات المتحدة فحسب وإنما أيضاً على امتداد العالم، خاصة بعد أن أضافت مواصفات هذه "العودة" الكثير الكثير لقوته. فهو الرئيس الثاني الأميركي في التاريخ الذي خسر الرئاسة في دورة ثانية لكنه عاد ففاز فيها في دورة جديدة. كما أن شعبيته، التي تتبدى في الحقائق والأرقام، جعلت منها شعبية كاسحة على مستوى الأصوات الإجمالية للمنتخبين (ساحباً عديد الأصوات المحسوبة تاريخياً لصالح الحزب الديمقراطي المنافس) فاكتسح جميع الولايات المتأرجحة. والحال كذلك، انعقد لترامب ولتياره الانعزالي لواء الحزب الجمهوري ملغياً أو محجماً مختلف القيادات التاريخية أو الصاعدة في الحزب، وبالذات مع استيلائه، في عودته "المظفرة"، على السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والمحكمة العليا).

ومما راكم قوة استثنائية إضافية للرئيس القادم ترامب حقيقة أنه بهذه الشعبية المذهلة، لربما ينجح في إكمال عملية "تنظيف" اسمه محو الفضائح التي واكبته تاريخياً. أما وأنه لن يستطيع قانونياً الترشح لرئاسة قادمة فإن ذلك يعزز من واقع أنه لن يكون مديناً لأحد في الحزب أو في خارجه، سواء على صعيد ترشحه أو على صعيد نجاحه الباهر، خاصة وأنه -أصلاً- كان قد جاء من خارج عالم السياسة الأميركي وكذلك من خارج عالم السياسة الخاص بالحزب الجمهوري.

إزاء كل هذه "التراكمات"، فإن من الغريب وأيضاً الطريف، أن عدداً متنامياً من المحللين والمراقبين يراهنون الآن على مكونات القوة الاستثنائية التي أصبحت في يدي ترامب، محمولة على نرجسيته العالية ولربما المتفاقمة للاستنتاج بأن عصره بنسخته الجديدة سيكون عصراً ذهبياً يمارس فيه الرئيس العائد إلى سدة حكم أقوى بلدان العالم دور "المستعيد" لعظمة أميركا الجديدة داخلياً وخارجياً، مقروناً بدور "مطفئ الحرائق" على امتداد الكرة الأرضية، متواكباً مع دوره المنشود بصفته "صانع السلام" العالمي بما يؤهله لنيل جائزة نوبل للسلام. فهل يتحقق هذا السيناريو "المتفائل" ويشمل في طياته الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي الأخطر والمزمن في منطقتنا، أم يسود السيناريو "المتشائم" وربما المرجح وبالذات بعد إعلانه عن تركيبة إدارته القادمة وهو الأمر الذي لا يبشر بأي خير. هل نشهد سياسة أميركية قوامها أن ما ينطبق على العالم في ظل "الترمبية الجديدة"، المتمتعة بل والمستمتعة بفائض القوة، لا ينطبق علينا نحن معشر العرب والمسلمين بحيث نبقى مستثنيين من تطبيق نواميس الشرعية والقوانين الدولية وبالتالي عرضة لمخاطر "الترمبية القديمة" التي تمخض جبلها يوماً فولد فأر "صفقة القرن" سيئة السمعة والصيت.