أثناء جولة المؤرخ التوراتي الصهيوني "زئيف إيرلتش"، برفقة رئيس أركان لواء غولاني يوآف ياروم، في 21 نوفمبر/تشرين ثاني لـ (قلعة شمع) القريبة من مدينة صور اللبنانية، أطلق مقاتلون من حزب الله صاروخًا فقتل إيرلتش وأصيب ياروم بجراح خطيرة. وإيرلتش هذا هو من مؤسسي مستوطنة (عوفرا) بالقرب من رام الله، ووصفته وسائل إعلام إسرائيلية بأنه باحث في "تاريخ إسرائيل"، وأنه كثيرًا ما كان يرافق قوات الاحتلال في الضفة الغربية في البحث عن هذا التاريخ، وله عدة مؤلفات منها "السامرة وبنيامين" و"دراسات يهودا والسامرة"، كما أنه كان ضابطًا في المخابرات الإسرائيلية خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام1987. 

إن مرافقة "إيرلتش" لجيش الاحتلال في عملياته العسكرية للبحث في قلعة شمع (التي بناها الصليبيون عام 1116 ميلادي)، عما يعتقد المؤرخون التوراتيون بأن قبر النبي شمعون يقع فيها، تعيد إلى الأذهان مرافقة المستشرقين للجيوش البريطانية في حملاتها الاستعمارية في عديد من المناطق في العالم (أو قد يسبقونها)، لدراسة ثقافة وتاريخ المجتمعات المُستعمَرة، ومنها فلسطين التي كانت هدفًا للاستشراق التوراتي منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر (قبل تأسيس الصهيونية)، لإثبات أن قصص التوراة بشأن وجود اليهود في أرض كنعان قد حصلت فعلاً، تمهيدًا للاستعمار الصهيوني لها. 

وفي سياق هذه المساعي، كانت بريطانيا قد أرسلت في عام 1871 بعثة مسيحية لفلسطين حملت اسم "صندوق اكتشاف فلسطين"، استمرت مهمتها لثمانية أعوام، حيث جرى خلالها رسم 26 خريطة وكتابة عشرة مجلدات عن فلسطين، توثق قراها وعددها وطبيعتها وأنواع طيورها ونباتاتها. ولم يكن هدف تلك البعثة توثيقيًا، كما كان يبدو عليه الأمر، بل كان لاستكشاف جيولوجيا فلسطين وآثارها التاريخية، ومسح للأماكن التي ورد ذكرها في التوراة. وبالفعل أعدت البعثة البريطانية قائمة بأسماء عشرة آلاف من القرى الفلسطينية، كما طبعت أربعة خرائط لفلسطين، الأولى بالأسماء العربية، والثانية بالأسماء الواردة في العهد القديم "التناخ"، والثالثة بأسماء العهد الجديد "الأناجيل"، أما الرابعة فقد تضمنت أسماء مصادر المياه وتوزيعاتها الجغرافية، وكانت تلك الخرائط هي الخطوة الأولى لتهويد أسماء القرى الفلسطينية في الطريق لاحتلالها. 

لقد عملت إسرائيل ومنذ إقامتها في 1948 وإلى اليوم على تحويل فلسطين لوطن يهودي الهوية والمكونات، بترجمة المكان وصبغه بالصبغة اليهودية، من خلال "عبرنة" أسماء المدن والقرى والتضاريس بطريقة ممنهجة لم يشهد لها التاريخ مثيلا. ولتحقيق هدف التهويد هذا تم تشكيل "لجنة المسميات الحكومية"، وتتكون عضويتها من مختصين في الدين والتراث والتاريخ والجغرافيا، بالإضافة لمسؤولين في التخطيط والتنظيم، ومستشرقين مختصين بالشؤون العربية، ومهمتها دراسة أسماء الأماكن والمواقع، ووضع بدائل عبرية لأسمائها العربية. وتستخدم هذه اللجنة التي لا تزال قائمة إلى اليوم منهجياتٍ عدة، لصبغ المواقع بأسماء عبرية منها: إحياء أسماء تلمودية وتوراتية، وأسماء مستوحاة من الطبيعة والأرض، كما أُطلقت على مواقع أخرى أسماء ذات طابع قومي يهودي، بالإضافة إلى تسمية مواقع بأسماء معارك تاريخية وأسماء شخصيات يهودية وأجنبية.                   

وعلى مدى عقود، وخبراء الآثار المستشرقون التوراتيون يحملون الفأس بيد والتوراة باليد الأخرى في التنقيب لإثبات وجود اليهود في فلسطين طبقًا لكتبهم الدينية، فلم يتركوا موقعًا من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها إلا ونبشوه، دون أن يجدوا أي آثار أو نقوش تثبت أن فلسطين كانت مسرحًا للجغرافية التاريخية للتوراة. وهذا ما أكده عالم الآثار الإسرائيلي "يسرائيل فنكلشتاين" في حديث لمجلة (جيروزاليم ريبورت) العبرية بقوله: "إن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية، تدعم بعض القصص الواردة في التوراة، بما في ذلك قصص الخروج والتيه في سيناء، وانتصار يوشع بن نون على كنعان".

وما توصل إليه "فنكلشتاين"، كانت قد توصلت إليه عالمة الآثار البريطانية "كاثلين كينون" في تنقيباتها عن هيكل سليمان في القدس سنة 1968 عن عدم وجود أي أثر له، وبأن ما ورد في الكتب اليهودية الدينية محض أساطير لا أساس لها من الصحة. كما كشفت تنقيبات كينون أيضًا عن عدم وجود مدينة "حبرون"، التي تدعي التوراة بأن النبى موسى أرسل من يستقصي كيف يمكن دخولها، لأنها ببساطة أقيمت في عام 750 قبل الميلاد، أي بعد عهد موسى بأكثر من 300 عام. وما توصلت إليه كينون بشأن الهيكل وحبرون ينطبق أيضًا على القدس، التي قالت عنها في كتابها (حفريات القدس)، بأنها كانت صغيرة المساحة بحيث لا يمكن أن تكون عاصمة لدولة الملك داوود، التي امتدت من النيل إلى الفرات وفقًا للسردية الدينية اليهودية.

وبحسب الباحث في تاريخ الأديان فاضل الربيعي، فإن تزوير جغرافية فلسطين ولبنان والمشرق العربي بشكل عام، تم على يد المستشرقين التوراتيين، إذ اعتمدوا نسخة للتوراة باللغة الإنجليزية لتزوير تاريخ المنطقة، وتم فيها إسقاط جغرافية اليمن التي كانت مسرحًا للتوراة فعلاً على جغرافية فلسطين لأهداف استعمارية.

ويضيف الربيعي: أنه "بالاعتماد على نسخة قديمة للتوراة باللغة العبرية، والاستعانة بعلم الآثار وباستخدام الكربون المشع وفحص الـDNA ، والاستعانة أيضًا بفقه اللغات السامية المقارن، ثبت بأن ليس لليهود أي علاقة تاريخيًا بفلسطين أو مصر، وأن أنبياءهم وملوكهم ولدوا وعاشوا وماتوا في الزاوية الجنوبية الغربية من شبه الجزيرة العربية". 

وباستخدام علم التأصيل "الإتيمولوجيا"، الذي يُعنى بدراسة أصل المفردات، وتاريخها والتركيبات التي تندرج في سياقها، ومقارنة المتشابه منها في لغات تنتمي إلى عائلة لغوية واحدة. ويتوصل الربيعي إلى نتيجة مفادها، بأن أسماء مواقع في الجغرافية الفلسطينية شبيهة لتلك التي في اليمن، ليست إلا أسماء مواقع يمنية أسقطها المستشرقون الإنجليز على فلسطين بالباطل، ومنها على سبيل المثال (وادي جردان) في شبوة باليمن الذي ادعوا بأنه وادي الأردن، ومدينة (بينان) في ذمار باليمن ادعوا بأنه لبنان، وحصن أريحا (بالعبرية يريخو) ما زال موجودًا شمال صنعاء باسم (يراخ)، وكذلك مدينة صور العمانية المشهورة بأخشابها، حرفت لتصبح مدينة صور اللبنانية، وأن وادي العرب في اليمن تم تحريفه لوادي عربة في فلسطين، وكذلك بئر سباع في مأرب في اليمن حولت إلى بئرالسبع في فلسطين، والقائمة طويلة.

إن مقتل المؤرخ المستوطن "زئيف إيرليتش" في جنوب لبنان، يُشير على أن مزوري جغرافية فلسطين التاريخية والمنطقة بشكل عام، بمرافقتهم لقوات الاحتلال في غزوها لجنوب لبنان حاليًا، إنما يسيرون على خطى مؤرخين صهاينة سبقوهم كانوا ضالعين بالتزوير، بل وبفبركة التاريخ بواسطة تصنيع الآثار، وهؤلاء كانوا قد رافقوا القوات الإسرائيلية في حرب الـ 67 في سيناء والضفة الغربية والجولان. إن الهدف من مرافقة "إيرليتش" لقوات الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان هو إثبات الأساطير التوراتية بشأنه، والتي قال عنها مسؤول الاتصالات في حكومة بنيامين نتنياهو سابقًا "مايكل فرويند"، في مقال في جروزاليم بوست "من الناحية التاريخية فإن للشعب اليهودي في جنوب لبنان جذور عميقة يبدو أن كثيرين قد نسوها، وإنه من الهام تسليط الضوء عليها في هذا الوقت الذي تقاتل فيه القوات الإسرائيلية لتطهير جنوب لبنان".