بقلم: عبد الباسط خلف

لم تكن عائلة محمد السعدي أو الصفوري، كما هو شائع، تعلم بأن ابنها البكر عبد الله سيلتحق بشقيقه الشهيد ماجد، بعد أكثر من 20 عامًا.

وبدأت الأسرة منذ صباح أمس الخميس تستقبل المعزين من الأقرباء والجيران، الذين ساندوا الأب والأبناء في ساحة بيتهم بحرش السعادة على أطراف جنين الشمالية الغربية، فيما أخرت أكثر من 24 ساعة تشييع جثمان ابنها الشهيد، حتى وصول شقيقه بلال من الصين، التي كان فيها لشأن تجاري.

وحافظ الأب السبعيني، المعروف بأبي عبد الله الصفوري على رباطة جأشه، ولخص حكاية ارتقاء نجله، وقال باقتضاب وحزن شديدين: إن "أجل ابنه البكر انتهى ولا اعتراض على حكم الله تعالى، والتحق مساء الأربعاء بأخيه، تاركًا أربعة أبناء".

 - 3 رصاصات

وبشق الأنفس، تمالك الشقيق إبراهيم نفسه وراح يتحدث بحزن شديد عن تفاصيل استشهاد عبد الله. وقال: إن "جنود الاحتلال حاصروا منزل عائلة الشهيد أمجد القنيري، وطالبوا عبر مكبرات الصوت أحد الشبان بتسليم نفسه، وأطلقوا الرصاص صوب المنزل، وسط تحليق مسيرة فوقه".

وأكد أن ثلاث رصاصات أصابت عبد الله في فخذيه خلال وجوده في ساحة بيته، وظل ينزف، إلى أن وصلت سيارة إسعاف ونقلته إلى مستشفى ابن سينا.

ويحمل عبد الله الترتيب الأول في العائلة، ويليه أمجد، ويأتي الشهيد ماجد في المكان الثالث، وبعده إبراهيم، ثم مجاهد، وهو صحافي معتقل حاليًا في سجون الاحتلال، وبلال، فنور، ثم أحمد الأصغر إضافة إلى ثلاث بنات.

وقال إبراهيم: إن "عبد الله قضى في معتقلات الاحتلال أكثر من 15 عامًا، خلال انتفاضة الحجارة وبعدها، وحرمه الاحتلال خلالها من وداع والدته رابعة سمور، التي توفيت عام 1990 عندما كان في الثامنة عشرة".
وتابع: بأن لشقيقه أربعة أبناء، أكبرهم محمد 16 عامًا، وحلا، وسعيد، وأصغرهم غنى في الصف الخامس.

- قبران متباعدان

وأضاف: إن "المرة الثانية التي تتلقى فيها العائلة أخبارا ثقيلة، إذ كان يوم 16 حزيران 2004 حزينًا جدًا، فقد اغتالت فرق الموت ماجد، خلال تواجده في مطعم شعبي بأطراف المدينة، عندما تصادف وجوده مع اقتحام المستعربين للمطعم لاغتيال أحد المطاردين".

وأفاد ومعه دموعه بأن ماجد كان في الثامنة والعشرين يوم استشهاده، وسبق أن أصيب عام 2001 في قدمه برصاصة أطلقت من دبابة، وخلال نقله لمستشفى في نابلس، اعتقله الاحتلال وحكم عليه ثلاث سنوات، وصار يعاني إعاقة منعته من مواصلة عمله الحرفي.

ووفق الأخ المكلوم، فإن والدتهم يوم رحلت كان ماجد طفلاً، ولم يذق كثيرًا من حنان أمه، وقد استشهد وهو أعزب.

وأضاف: بأن "عبد الله لن يدفن بجوار أخيه في مقبرة مخيم جنين القديمة، لعدم وجود حيز، وسيتوزع فؤاد العائلة على المقبرتين الجديدة والقديمة".

ومن جانبها، أوضحت مصادر مستشفى ابن سينا بأن إصابة الشهيد السعدي كانت قاتلة في الفخذ الأيمن برصاصتين، وأخرى في الفخذ الأيسر، أصابت الشريان الرئيس المتصل. وأكدت أن عبد الله وصل المستشفى، وقد فارق الحياة، وعبثًا حاول الإسعاف إنعاش قلبه.

- عصامي وقارئ

بدوره، استرد جعفر نبهان، رفيق درب عبد الله، مناقب صديقه، فقد انخرط في وقت مبكر في انتفاضة الحجارة 1987، وشارك في تأسيس مجموعات "الفهد الأسود".

وأضاف: بأن "عبد الله صاحب موقف ورجل شجاع، وكان عصاميًا، وعمل في جهاز المخابرات العامة، كما عمل في أعمال الدهان وقيادة تكسي أجرة، لإكمال بناء بيته".

وأكد نبهان، بأن رفيقه أسس بيتًا ريفيًا متواضعًا في حرش السعادة، ولم يستخدم فيه الإسمنت واكتفى بالجفصين ومواد أخرى، وربما هذا أحد أسباب وصول رصاص الاحتلال إليه داخل منزله.

وأشار إلى أن عبد الله زميل دراسته في تخصص علم النفس بجامعة النجاح الوطنية، وتخرجا معًا عام 1999، وبعدها صاهر صديقه عائلة من البلدة القديمة في نابلس، وظل قلبه معلق بجنين.

وقال جعفر: إن "رفيقه كان قارئًا متميزًا، وأسس مكتبة في بيته، وحرص على اقتناء إصدارات كثيرة ومواكبتها، ووصف رحيله بـ"خسارة كبيرة" لرجل شجاع وصاحب مبدأ".

فيما عجت مواقع التواصل بصور السعدي وبنعيه، وبوسترات من رئيس جهاز المخابرات العامة الوزير اللواء ماجد فرج، ونعي من القوى الوطنية، ورثاء من العائلة ورفاق الدرب.

وسريعًا انعكس الحزن والحداد على مكتب تكسي بريكي، حيث عمل عبد الله نحو عشر سنوات، وأقفل المكان أبوابه منذ الصباح، فيما قال السائق وائل جرار: إن "غياب زميلهم الخلوق والمحبوب من الجميع سيترك فراغًا كبيرًا".

وذكر بأن المكتب خسر سائقًا رائعًا جدًا، وإنسانًا متواضعًا، وكان مساء الثلاثاء الماضي آخر مشوار لعبد الله.

وأضاف جرار: بأن "هاتف النداء اللاسلكي للمكتب سيفتقد صاحب الاستجابة العاشرة، فيما سيترك الصفوري مقوده وسيارته، والأهم سيخسر السائقون والزبائن زميلاً لن يتكرر".