تشهد الأوطان في أحيان كثيرة ظواهر غريبة تمس أعمق جوانب الانتماء والولاء، ومع انتشار الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، باتت الوطنية - التي كانت في يوم من الأيام قيمة سامية مرتبطة بالولاء الصادق والتضحية - تُستغل بشكل صارخ من قبل من يسعون وراء مصالحهم الخاصة. حيث تعكس ظاهرة "الوطنيّة المزيّفة" أسوأ تجليات الانتهازية والنفاق في المجتمع، حينما تُحوّل المشاعر الوطنية إلى أدوات لتحقيق المكاسب الشخصية، متّخذةً من مظاهر الزيف غطاءً يخفي النوايا الحقيقية.
يتناول الكاتب السوري فراس السواح في كتابه الجديد، الصادر في عام 2024، بعنوان"الوحي والنص – قراءة في المشروع المحمّدي"، فكرة الوحي بوصفه تجربة روحية نابعة من العلاقة بين الإنسان والعالم الإلهي. حيث يضع السواح النصوص المقدسة في سياقها التاريخي والثقافي، محاولاً فهم كيفية تعامل المجتمعات مع هذه النصوص وتأويلها. كما يناقش كيفية تداخل النص المقدّس مع الواقع الاجتماعي والسياسي، مما يفتح باب النقاش حول كيفية استخدام النصوص الدينية أحياناً لتحقيق غايات دنيوية. ويشير السواح إلى أن النصوص المقدسة، رغم قدسيتها وتاريخها العريق، قد تكون في بعض الأحيان عرضةً للتفسير وفقاً للمصالح الشخصية أو الأجندات السياسية. وهذا يتقاطع مع ما نراه اليوم في استغلال الوطنية وقيم الانتماء لتمرير خطابات تحمل خلفها أجندات خفية. فكما تُحوّل النصوص الدينية أحياناً إلى أدوات في يد من يسعون للسلطة، تُستغلّ الوطنية كذلك من قبل أولئك الذين يحاولون التلاعب بمشاعر الناس.
قدّم الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري، في "رسالة الغفران"، نقداً فلسفياً واجتماعياً عميقاً للمظاهر الدينية والاجتماعية التي تشكل قناعاً للنفاق، وطرح تساؤلاتٍ عميقة حول الغفران والعدالة الإلهية، مُظهراً بشكل ساخر كيف يمكن أن تكون التصوّرات الدينية والاجتماعية مغلوطة أو مسيّسة. وإذا ما تأملنا هذا العمل الأدبي لأبي العلاء المعري في ضوء الزمن الحاضر، سنجد أن ما قدّمه يمكن أن يُطبّق بشكل مشابه على مفهوم "الوطنية المزيفة". وكما طرح المعري أسئلة حول من يستحق الغفران حقاً في الآخرة، نتساءل اليوم: من يستحق فعلاً أن يُطلق عليه لقب "الوطني"؟ هل هي مجرد شعارات ترفع على المنصات، أم أن الوطنية الحقيقية تتجسد في الأفعال والالتزام الصادق بخدمة الوطن والمجتمع؟.
تعود مظاهر الوطنية المزيفة بشكل مكثّف بالتزامن مع حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة منذ السابع من تشرين أول/أكتوبر 2023، فقد برز عدد من الأشخاص الذين استغلوا المعاناة الإنسانية للترويج لخطابات وطنية لا تعكس سوى قشور الانتماء. وبينما يظهر هؤلاء على الشاشات، مظهرين مشاعر زائفة من الحزن أو الفخر، فإنهم يسعون في الحقيقة لتحقيق أهداف شخصية أو سياسية.
يروّج البعض لتحليلات مغلوطة تصوّر المقاومة الفلسطينية كقوة موازية للجيش الإسرائيلي، مستخدمين الخطاب الثوري كوسيلة لتضليل الناس بعيداً عن الحقيقة المأساوية التي يعيشها الشعب الفلسطيني. ولا تجلب هذه الممارسات الإعلامية إلا المزيد من الدمار وتفاقم المجازر والإبادة التي يتعرض لها شعبنا، ولا تخدم سوى الاحتلال الإسرائيلي، بإعطائه الذريعة لمواصلة هجماته الوحشية دون رادع.
وبينما يهاجم آخرون المقاومة من منظور حزبي ضيق، يستغل البعض هذه الأحداث لتعزيز مواقفهم السياسية أو لتأجيج مشاعر الكراهية، أو لإثارة حالة الجدل لأغراض مادية بحتة من خلال القنوات الفضائية التي تستضيفهم لزيادة نسبة المشاهدات.
تسرّبت رائحة الوضاعة عبر الأجواء الإعلامية، كاشفةً زيف هذه العواطف المصطنعة والمظاهر الخادعة. وصحيح أن الوطنية المزيفة ليست جديدة على المجتمعات، لكنها تزداد انتشاراً في أوقات الأزمات والانقسامات. فحينما تُخمد أصوات المناضلين الحقيقيين تحت وطأة الضجيج السياسي، يتسلق الانتهازيون ويستغلون آلام الوطن، ويبيعون مشاعرهم وأخلاقهم على أنها "وطنية"، ويستخدمون الأزمات كمنصة لتحقيق مصالحهم الشخصية.
إن الرجوع إلى المبادئ هو السبيل للخلاص من هذه الوطنية الزائفة، وهنا نقصد المبادئ الحقيقية للوطنية التي تتجسّد في التضحية، والعمل الجاد، والتفاني من أجل الصالح العام دون انتظار مقابل. يجب أن يكون لدينا وعي لا سيّما الآن في ظل المرحلة الأصعب والأخطر في تاريخ القضية الفلسطينية، بأن الوطنية ليست شعاراً يرفع في المناسبات أو خطابات تُلقى على المنصات، وأن الوطنية الحقيقية لا تُباع ولا تُشترى، ولا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الفعل الصادق الذي يعبر عن الانتماء والولاء.
لا تُحرّر الأوطان بالكلمات الفارغة أو الشعارات والتحليلات الجوفاء، بل بالعمل الجاد والمبادئ الراسخة. ويجب أن نُدرك أن الوطنية ليست وسيلة لتحقيق المصالح الشخصية، بل هي قيمة سامية تستدعي منا التضحية والعمل من أجل شعبنا ووطننا الذي يستحق منا الكثير الكثير لننتصر به. وفي زمن يعجّ بالمظاهر الخادعة والوطنيين المزيفين، يبقى الأمل معقوداً على الذين يحملون في قلوبهم الانتماء الحقيقي، ويعملون بإخلاص من أجل حرية فلسطين وشعب الجبارين.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها