برغم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بن غوريون هو  من تيار الصهيونية الاشتراكية وزعيمه، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي نتنياهو هو من التيار اليميني، سليل الصهيونية التنقيحية بزعامة جابوتنسكي، فإن الأول نفذ اوسع عملية تطهير عرقي للشعب الفلسطيني خلال حرب العام 1948، والثاني يقوم الآن بحرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني قد يترتب عليها أيضًا عملية تطهير عرقي في قطاع غزة والضفة. في الجوهر، وبما يتعلق بالأهداف الصهيونية، لا يبدو أن هناك فارقًا كبيرًا، ربما الفرق بدرجة الوقاحة، ودرجة الوضوح في كيفية تحقيق الاهداف والوصول إليها.

بن غوريون الصهيوني الاشتراكي، الذي أسس الاتحاد العام لنقابات العمال "الهستدروت" عام 1920. وأصبح سكرتيرها الأول، كان عنصريًا بما يتعلق بعمل العرب الفلسطينيين، وهو من الداعمين الكبار لشعار "العمل العبري"، أي الأولوية في فرص العمل للعامل اليهودي، كما أنه لم يخفِ أن أولوياته هي صهيونيته وليس اشتراكيته، أولويته السيطرة على "أرض إسرائيل" اي فلسطين، كما لم يخف أن السلام مع العرب لم يكن أولويته، وإنما التحالف مع الدول الكبرى التي تدعم الهجرة اليهودية والاستيطان في فلسطين، وأنه إذا لجأ إليه، أي السلام، فإنه مجرد وسيلة لتحقيق الاهداف الصهيونية.

أما نتنياهو فهو حتى لا يؤمن باستخدام السلام كوسيلة، وإنما هو معاد للسلام ولا يقبل به لا مرحليًا ولا استراتيجيًا. هو عبارة عن آلة حرب توسعية، وحش استيطاني. ولا يقبل بتقاسم فلسطين وبالتالي هو ضد مبدأ حل الدولتين جذريًا، ويجاهر أن لا دولة فلسطينية غرب النهر في الثلاثينيات من القرن العشرين، وفي ذروة ثورة الشعب الفلسطيني الكبرى وعندما صدر تقرير اللجنة الملكية، لجنة بيل (Beel)، في تموز/ يوليو العام 1937، الذي أوصى للمرة الأولى بتقسيم فلسطين إلى دولتين، قبل بن غوريون التقسيم على الفور، وقال في حينه دولة يهودية متطورة مهما كانت مساحتها صغيرة بإمكانها أن تستوعب ملايين المهاجرين اليهود، كان ذلك في ذروة صعود النازيين في ألمانيا، بمعنى أن أولوية بن غوريون كانت توفير ملجأ لليهود في دولة حتى ولو كانت صغيرة المساحة، لكنها من وجهة نظره يمكن أن تتوسع لاحقًا. التيار الصهيوني اليميني، الذي يشكل جذر نتنياهو الإيديولوجي، رفض التقسيم، لأنه يريد "أرض إسرائيل" كلها دفعة واحدة. على أي حال سحبت بريطانيا التقرير ومعه مشروع التقسيم في حينه.

بن غوريون الاشتراكي، سعى إلى الحصول على دعم أول دولة اشتراكية، الاتحاد السوفييتي، وأقام عام 1923 شهرين في موسكو لإقناع السوفييت بالمشروع الصهيوني بشكله الاشتراكي، وخلال الحرب العالمية الثانية، وعندما كان رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، دعم بن غوريون عملية نقل المركز الصهيوني من لندن الى نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية، واعلن في العام 1943 من هناك وبشكل واضح لا لبس فيه، إن هدف الصهيونية هو إقامة دولة يهودية على "أرض إسرائيل" أي فلسطين. وكان أكثر الزعماء الصهاينة وأذكاهم في استغلال نتائج الحرب العالمية الثانية، فكان حليفًا للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه يأخذ السلاح من المعسكر الاشتراكي، وسارع بقبول قرار تقسيم فلسطين الصادر عن هيئة الأمم المتحدة في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 1947، وبدأ يحضر لإعلان تأسيس دولة إسرائيل، كان هدف بن غوريون أن تختفي فلسطين عن الخارطة، وكذلك نتنياهو اليوم، فالصهيونية لا يمكن أن تتعايش مع فكرة  وجود الشعب الفلسطيني وأي كيان فلسطيني، فهي نقيضه بالرواية الصهيونية المزيفة.

ولمن أراد أن يدقق بتسلسل أحداث التاريخ المعاصر، فهو يلاحظ أنه وعندما قرر أقرب تلامذة  بن غوريون له "إسحاق رابين وشمعون بيريس" الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي الوحيد منظمة التحرير الفلسطينية في إطار اتفاقيات أوسلو، وهو الاعتراف الذي جاء بعد اكتشاف هؤلاء التلامذة حقيقة أنه لا يمكن السيطرة على الشعب الفلسطيني. قام التيار الصهيوني اليميني بتدبير عملية اغتيال رابين عام 1995، ومن ثم قام بنسف الاتفاق وإفراغه من أي مضمون سلام، وها هو نتنياهو اليوم يقوم بحرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ولا يخفي رفضه القاطع للدولة الفلسطينية، وإنما هو بالأساس يرفض الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، ويقوم بتصفية كيانه السياسي الوطني الوحيد الذي أقيم على أجزاء من أرض فلسطين، والمعترف به دوليًا، أي السلطة الوطنية الفلسطينية، واليوم يعلن نتنياهو نهارًا جهارًا أن لا دولة فلسطينية غرب النهر، وأنه سيواصل احتلال قطاع غزة.

والآن نكتشف كم كان مهمًا أن نعمل على تقوية أول كيان سياسي فلسطيني على أرض فلسطين بدل إضعافه، وهذه الرسالة موجهة للجميع، قد تكون السلطة الوطنية مليئة بالعيوب والثقوب، ولكن كان يجب العمل على تقويتها بدل إضعافها، وعلى إصلاحها بدل هدمها.

السلطة الوطنية لا تزال موجودة، والسؤال اليوم وفي ذروة المحاولات لتصفية القضية الفلسطينية: كيف نضخ الدم بأسلوب وطني حقيقي في السلطة الوطنية؟ فالحفاظ على هذه السلطة هو المدخل للحفاظ على وجود الشعب الفلسطيني وصموده على أرضه، خصوصًا في ظل مخططات التهجير ووأد طموحاتنا في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس.