يا إلهي..

إنني أسمع، وبوضوح تام، من ينادي:

أرجوكم، أيها الفلسطينيون.. انتصروا!

لأجلي.. أنا من طارد اللقمة، والكتاب، والأحلام، والصباحات.

لأجلي.. أنا من عاش كل الليل حالمًا بخيط برق يتلوى وسط غيوم شديدة السواد.

لأجلي.. أنا من علق صورة الجد الكبير، وكتب تحتها: استشهد بهدوء ووقار في يعبد، وصورة الجد الأوسط "أبو جنادات الرصاص، والشاربين الأسودين الكثيفين" وكتب تحتها: كان رفيقًا لأبو سعاد ابن مدينة حماة سعيد العاص، وقبره قرب قبره في بلدة الخضر، وصورة الجد الأصغر صاحب الشعر الأكرت والعينين الملونتين الذي قتله الإنكليز قرب نهر الأردن، عندما احتلوا طبريا، حين صرخ بهم: ويلكم، دنستم التراب الذي مشاه سيدنا، وصورة الجد الأصغر الأصغر الذي أفنى عمره وهو يقرأ التاريخ المكتوب في لفافات ورق الجرار في أريحا، وصور الأب، والعم، والخال، وورد، وقد كتب تحتها: سامحني، أيها الجدار، ثقل الحمل عليك.

ولأجلي.. أنا أم الثمانية الذين ودعتهم تباعًا في ثمانية تواريخ دامية.

ولأجلي..أنا من شهد مصرع الميجر الإنكليزي بيفن حاكم مدينة جنين عام 1938.

***

أرجوكم، أيها الفلسطينيون.. انتصروا!

افتكوا التاريخ من غاصبيه، حرروه من هذا الاعتقال الطويل، واسحبوا الجغرافية قليلاً، قليلاً فقط، إلى قرب الشباك. لعل نسمة من الناصرة، تصير هي قبلة الحياة، واكشفوا عن ما سرقوه من سومر وأكاد وبابل وآشور والمصريين كي نرى حقًا، كذبتهم الفاقعة.

***

أرجوكم، أيها الفلسطينيون.. انتصروا!

لأجل هذه الدموع المالحة التي سوروها بما لا يليق بها، لأجل ما كتبته كتب التاريخ. من أن آلهة الأولمب كانوا يدنون من هنا، ويهبطون.. ليعرفوا مرايا الجمال من صخب وغناء بنات الجليل اللواتي جالسن نهر الأردن، على الضفتين، وهن يغسلن الثياب، والزلالي، والتعب، والكلام الرجيم،  وجرز الصوف.

***

أرجوكم، أيها الفلسطينيون.. انتصروا!

لقد انتصف نهار الصيف، واستوقدت الشمس لهيبها، وصريخ الانتظار يتعالى مثل أعمدة من دخان ولعنات، والطيور، ها هي، تغادر أعشاشها حاملة كتاب التعب إلى السماء السادسة، عفوًا، إلى السماء السابعة، لتقول هناك: هذا كتاب أهلي، هذه الصفحة لأم الرشراش مكتوبة بالأرجوان، وهذه الصفحة لطبريا مكتوبة غناء بعيدان القصب، وهذه الصفحة لبحارة حيفا، إنها بيضاء، وملحها لم يجف بعد، وهذه الصفحة شكاية شجر الزيتون من أنياب الفولاذ، وهذه صفحة اشجار الخروب والجميز والسدر والطيون، وهذه صفحة غناء بنات أريحا المرحبات بقوافل الملح، وهذ صفحة غناء بنات بيت حانون وهن في طقس الحناء، تقابلها صفحة بنات بئر السبع حاملات أباريق النحاسفي رحابة دار العبادة.

***

أرجوكم، أيها الفلسطينيون.. انتصروا!

انتصروا بالتراتيل، والموسيقى، والأجراس، وما في الكتاب. كفى حياة مع الموت، والخوف، والليل، وأخبار العتمة، والرصاص، والصواريخ الذكية، والكذب، والانتظار المرير، كفى تحديقًا بهذه الأسلحة، كفى توثينا لها، وللرصاص.

هنا، كل من يقف، ويتحرك، ويجلس، ويفكر، ويسعل، ويرمش، ويدخن، ويأكل، ويضطجع، ويتكلم. هو أسلحة ورصاص.

بلى، كفى!

***

أرجوكم، أيها الفلسطينيون.. انتصروا!

نريد صباحًا جديدًا، طلته جديدة، وثيابه جديدة، نريد قهوة لا رائحة بارود فيها، قهوة رضية هادئة، أنجزتها يد هادئة على نار هادئة، قهوة تضيء مثل عيون دامعة. نريد كعكًا مقدسيًا لواه الحنين، كعكًا له شقرة من ذهب وأوفى!

نريد قمرًا قرويًا مثل طبق القش الملون، يغار من سهراتنا فوق المصاطب فيدنو على مهل وريث، ويهبط جليلاً ليشرب من شاي الخليل، أو من الزنجبيل.

نريد ضحى له غرة يلهو بها الهواء، تحمله إلى سوق حسبة القدس، جميلات سلوان، والسواحرة والتعامرة صاحبات الوجوه القمرية، والأثواب المطرزة، والأذرع الأماليد التي تخشخش بأساور الفضة والخرز.

نريد خطًا كوفيًا يكمل، بحبره البراق، دائرة المعنى الجميل: موطني، موطني.

***

أرجوكم، أيها الفلسطينيون.. انتصروا!

كي نمحو بالنعناع البري رسوم العجز، والقهر، والسجن، واليتم، والقيد، والدم، والعوزي، والميركافا، والكوادكابتر، والدي ناين، والـ km، والـ F16.

وكي نوقد النار بأبجدية البطش والتوحش. وثقافة الإخافة.

***

أرجوكم، أيها الفلسطينيون.. انتصروا!

كي يصير الوقت ودودًا، فنعرف أن بوشكين، ومحمود درويش، وأمل دنقل، والسياب، وغسان كنفاني، وبوشناق، هم نعمة وبركة.

انتصروا.. رجاء، بالله عليكم انتصروا، كي يقرع جرس كنيسة جبل قرنطل في أريحا المنتظر منذ ألف عام، وكي نمحو معًا آخر ما تبقى من سواد غمة القوة العمياء.