لم يعد زماننا يحمل مفاجآت، ولا استهجانًا أو استغرابًا في كتابات العديد من الكتاب والباحثين، لأكثر من سبب.

- أولاً: خلفياتهم الفكرية والسياسية.

- ثانيًا: ارتباطاتهم الوظيفية أو الحزبية.

- ثالثًا: أثر الجغرافيا السياسية.

- رابعًا: اعتماد العديد على السمع والتأويلات الناجمة عن علاقاتهم مع اقرانهم من أوساط معينة، وانعكاسها على قراءاتهم واستنتاجاتهم السياسية.

- خامسًا: وقوعهم في اجتزاء واختزال الواقع، والانقلاب عليه للي عنق الحقائق.

استنتاجي آنف الذكر، له علاقة بالتقرير المثير الذي نشرته مجلة "الفورن ايفرز" الأميركية للباحث خالد الجندي بعنوان "سقوط الطاغية محمود عباس" أول أمس السبت 31 آب/أغسطس الماضي، الذي جانب فيه الصواب. وهو زميل قديم لدى معهد الشرق الأوسط، ومدير برنامج المعهد المعني بفلسطين والشؤون الفلسطينية، وكنت أفترض في الرجل القراءة الموضوعية المسؤولة للأحداث، كباحث في معهد مهم، بعيدًا عن الاسقاطات أو التأويلات البعيدة عن الواقع ومعطياته. إلا أن الباحث وقع أسير أجندة هدفها تشويه الحقائق، وإلقاء التهم الباطلة جزافًا على شخص الرئيس محمود عباس، واتهامه بما ليس فيه.  

وفي زاويتي هذه، لا أريد الدفاع عن شخص الرئيس أبو مازن، رغم انحيازي الشخصي له. لكن انصافًا للحقيقة والتجربة المعاشة خلال العقدين الماضيين من حكمه تقريبًا، وردًا على الحجج والذرائع التي أوردها الباحث بالحجة العلمية والمسؤولة بعيدًا عن أية اسقاطات شخصية، أو محاباة لشخص الرئيس الفلسطيني أو ردود فعل انفعالية.

- أولاً: تجاهل الباحث خالد الجندي دور انقلاب حركة "حماس" على الشرعية الوطنية أواسط عام 2007، مما أدى إلى إفقاد المؤسسة التشريعية "المجلس التشريعي" دورها الرقابي على السلطة التنفيذية، ليس هذا فحسب، بل أدى إلى الانقسام الأفقي والعامودي في النظام السياسي الفلسطيني.

- ثانيًا: رفضت حركة "حماس" منذ عام 2008 و2009 وما تلاها من أعوام وحتى الآن الموافقة على أية اتفاقات مصالحة بدءًا من محادثات صنعاء زمن الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، وورقة المصالحة المصرية، التي طرحت في 2009، ووقعت عليها حركة مباشرة، في حين أن حماس وقعت عليها لاحقًا في أيار/ مايو 2011، ومع ذلك لم تعمل على تطبيقها.

- ثالثًا: سبق بيان بكين الصادر في 23 تموز/يوليو الماضي، أي قبل نحو 40 يومًا سلسلة من الاتفاقات منها إعلان الدوحة 2012، وإعلان الشاطئ في 2014، واتفاقية تشرين الأول/أكتوبر 2017 في القاهرة، ثم إعلان الجزائر في تشرين الأول/أكتوبر 2022، وأخيرًا إعلان بكين حديث العهد، الذي لم يرفضه الرئيس محمود عباس.

- رابعًا: دليل قاطع على تمسك رئيس منظمة التحرير بأي بارقة أمل لدفع عربة المصالحة للأمام، إعلانه أمام البرلمان التركي في 15 آب/أغسطس الماضي توجهه مع القيادة الفلسطينية والأمين العام للأمم المتحدة والعديد من زعماء العالم لقطاع غزة لكسر حدة الاستعصاء في المصالحة الوطنية، ولفرض الأجندة الوطنية لقطع الطريق على أهداف حكومة نتنياهو الفاشية.

- خامسًا: في زمن الإبادة الجماعية التي دخلت شهرها الـ12 على أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة رفضت حركة "حماس" التعاون مع قيادة منظمة التحرير في مفاوضات وقف الحرب وابرام صفقة التبادل للأسرى، وأصرت على التفرد في المفاوضات، ليس هذا، بل اختطفت قرار هجومها على إسرائيل في 7 تشرين الاول/ أكتوبر 2023، ولم تشرك سوى من يدور في فلكها من قوى.

-سادسًا: رفضت حركة "حماس" إجراء أية انتخابات في قطاع غزة، حتى الانتخابات النقابية والمنظمات الشعبية، وليس التشريعية فقط.

ورغم هذه الحقائق الدامغة يدعي الجندي، أن الرئيس عباس مارس "الاستبداد" و"الطغيان"،  و"أبد الانقسام"، مع أن الذي ما زال يمسك بتلابيب الانقلاب والانقسام، هي حركة "حماس"، و"رفض بيان بكين"، وهذا لا أساس له من الصحة، لا بل أنه إسقاط رغبوي عن سابق تصميم وإصرار؛ لأنه هو من أعطى الصلاحيات لوفد حركة "فتح" بالموافقة على البيان، تجاوبًا وحرصًا منه على دفع عربة المصالحة قدمًا نحو الآفاق الوطنية الرحبة، وشكل لجنة وطنية من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لوضع خطة لتمكين القيادة من التوجه للقطاع، والوقوف مع الشعب المنكوب بالإبادة الجماعية لليوم الـ332 من حرب الأرض المحروقة الإسرائيلية الأميركية.

كما لم يقف أبو مازن مكتوف اليدين منذ اللحظة الأولى للحرب الإجرامية، وفي اليوم الأول أصدرت القيادة بيانًا، حملت فيه إسرائيل المسؤولية عنها، وواصلت الجهود السياسية والدبلوماسية في المنابر العربية والإسلامية والإقليمية والدولية وانتزعت العديد من القرارات الدولية لصالح الشعب والقضية والدولة الفلسطينية، وما زالت تواصل القيادة بذل مساعيها الوطنية لإيقاف الإبادة الجماعية على أبناء الشعب في كل الوطن الفلسطيني المحتل. رغم الغطرسة والاستباحة الإسرائيلية الأميركية للمؤسسات والمنابر الأممية وخاصة مجلس الأمن الدولي، وبلطجتها على المحاكم الدولية وخاصة الجنائية الدولية، وتعطيل الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، وقبلها رفضها الأحكام والتدابير الصادرة عنها في 26 كانون الثاني/يناير 2024، استنادًا لدعوى دولة جنوب إفريقيا الصديقة بشأن وصم إسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

إذاً على الجندي، إن كان باحثًا موضوعيًا الاعتذار المباشر والفوري للرئيس شخصيًا عما بدر منه من اتهامات باطلة، لا تليق به كباحث، إلا إذا كان عنوان تقريره المجحف والمسيء، والمجانب للصواب والمسؤولية ناجم عن انحياز مسبق لموقف جهات سياسية أو أمنية أو حزبية بعينها معادية للسلطة ولشخص الرئيس أبو مازن؛ لأن تقريره تضمن الذم والقدح في ذات الوقت، وهو ما يحمله المسؤولية عما كتب، ويحمل المعهد الذي يمثله أيضًا ذات المسؤولية.