الشاعرة الفلسطينية نهى عودة
عند عصر اليوم الثالث ونحن في المدرسة التي لجأنا إليها، أتى شاب يبلغ من العمر حوالي 17 عاما ويحمل بين ذراعيه طفلةً تبلغ من العمر حوالي السنتين. كان منظره "مُخيفًا" كأنما هو كتلة من الرّعب يلفّها الشّحوب والغبار.. اجتمع الناس حوله، ولم يمهلوه حتى ليأخذ أنفاسه، وانهالوا عليه بالأسئلة المتلهّفة التي تريد استجلاء بعضٍ مِمّا حدث في المخيّمات الأخرى..
كنتُ واقفة متسمّرة أنصتُ بكل كياني لكل كلمة تُفلت منه، قال بأنه كان يسكن في "حي العريض" حيث بدأت المجزرة هناك، وحكى عن تفاصيل كثيرة منها ما حدث لصبيّة تدعى "آمال"، كانت عروسًا جديدة وحاملا تنتظر مولودها بعد شهور، ولكنها كانت خرساء..
أخذ الصهاينة المعتدون "آمال" وجرّوها من شعرها الطويل، وشرعوا في استنطاقها بأبشع الوسائل والضغط والإهانة والشتائم.. ولأنها خرساء، اعتقدوا بأنّها تتحدّى جبروتهم وتهزأ بقوّتهم، فقتلوا أباها أمام عينيها، ثم قتلوها بدم بارد، وبقروا بطنها وأخرجوا الجنين من أحشائها ثم رموا به في الهواء وكأنهم يمارسون لعبةً للتّسلية.. كل ذلك حدث أمام عيني والدتها التي كانت تتوسّل إليهم أن يقتلوها هي أيضًا، ولكنهم تركوها تتجرّع الأوجاع أمام جثث زوجها وابنتها و"حفيدها"..
تحدّث الشاب عن أمور كثيرة حدثَت في المخيّم الذي جاء منه وهو يرتعش ويجهش بالبكاء، وانهار جميع المُنصتين وغرقوا في موجةٍ من البكاء المرّ، لا سيما وأنّ بعضهم كان يعرف الصبيّة "آمال" وعائلتها. ثم سُئل الشاب عن الطفلة التي يحملها بين ذراعيه إن كانت أخته؟ فقال: "لا هم - الصهاينة - أعطوني إيّاها، وقالوا لي اذهب وأخبر الناس ما فعلنا"، يا لبشاعتهم وقذارتهم ودمويّتهم! وهل فوق الأرض بشرٌ تجرّدوا من إنسانيتهم إلى هذا الحدّ، ووصل بهم التوحّش إلى هذه الدرجة من التّغوّل والهمجيّة؟
في اليوم التالي، كان عليّ إحضار الخبز أيضًا، فخطر ببالي شقيقتي التي تسكن في منطقة "البربير"، بجانب محمصتي: ابن عدنان وطافش، وهذه المنطقة لا تبعد كثيرا عن المخيم، كان هناك جسرٌ يفصل بيننا وبين الجنود الصهاينة الذين كانوا قد وصلوا إلى هناك بالدبّابات والأسلحة.. خرجتُ من المدرسة لإحضار الخبز، لكني ذهبتُ في اتجاه آخر، فقد قرّرتُ الذهاب إلى شقيقتي علّني أراها وأرى أحدًا من إخوتي واطمئن عليهم.
المسافة بدَت أطول ممّا يجب، ولم أشعر بقدميّ وهما تخطوان على الطّريق، رأيتُ الصهاينة منتشرين ومُدجّجين بالأسلحة والعتاد.. قرّرتُ عبور الشارع غير أنّ أحد العابرين أوقفني في تلك اللحظة، انتابني شعورُ رعبٍ وخوفٍ كبير، نصحني بأن لا أسير من هنا فالصهاينة يصطادون الناس بالقنّاص، وطلب مني التوجّه إلى تحت الجسر.. سمعتُ كلامه ومررت من تحت الجسر حيث كان صوت الرصاص كثيف، وبعدما اجتزته بسرعة كبيرة، حاولت أن أتفقّد جسدي فقد تخيّلتُ بأنني أصِبت برصاصة قنّاص، ولكنني نجوت..
وصلت إلى منزل شقيقتي، ووجدت هناك أخي "خليل" في مدخل العمارة فصعدت معه إلى المنزل، ووجدت شقيقتي الأخرى أيضا عندها، وغمرتنا موجةٌ من البكاء، ورحت أقصُّ عليهم جميع ما حدث معنا أنا وأمي وابنتي أختي.. وهم يُصغون في ذهول وخوف واضطراب، ثم سألني أخي "خليل" إن كنت استأذنتُ والدتي بالمجيء إلى منزل أختي، فأجبته بأنني لم أفعل ذلك، فانهال عليّ صارخا ومؤنّبًا، وكيف لي أن أتجرّأ على فعل هذا الأمر دون علمها، والأهمّ كيف سوف أتمكّن من العودة إلى أمي...؟
لم أطل المكوث بين إخوتي، فقد عُدتُ من الطريق الذي سلكته للمجيء، ووصلتُ إلى الفرن، ووقفت في الطّابور الطويل لأحصل على رطبة خبزٍ.. ثم رجعت إلى أمّي وبرّرتُ تأخّري في العودة بطول الطابور في الفرن، ولم أخبرها شيئا عن لقائي مع إخوتي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها