الشاعرة الفلسطينيَّة نهى عودة

الأسير المُحرَّر جمال أبو محسن (3)

تُعرف الشاعرة الفلسطينية "نهى شحادة عودة" في المجتمع الأدبي العربي باسم "ياسمينة عكَّا"، أبصرت النور في مُخيّمات اللاجئين في لبنان ذات يوم مُندسٍّ بين أعوام ثمانينيات القرن الماضي، وتعود أصولها إلى قرية شعب في قضاء عكّا بفلسطين.. هي ناشطة ومناضلة من أجل الحفاظ على الثقافة والذاكرة الفلسطينية وضمان توريثها لأجيال اللاجئين.. نشرت رواية واحدة وعددا من الدواوين الشعرية، وخصّت جريدة "الأيام نيوز" بمجموعة من القصاصات التي أودع فيها الأسرى المُحرّرون الفلسطينيون بعض ذكرياتهم في رحلة العذاب..

إلى جانب التعذيب الجسدي، مارسوا عليّ تعذيبا نفسيًّا رهيبًا طيلة فترة التحقيق، فقد كنتُ بين أيديهم كعصفورٍ تحاصره مجموعة من الغربان، حيث كانوا يهدّدونني بهدم منزلي. أما إذا رموا بي في الزنزانة فإنهم لا يسمحون للنوم بأن يتسلّل إلى عيوني، فقد كانوا يشغّلون نظام الصراخ والأصوات الصاخبة الصادمة، وأمور أخرى كثيرة أبدعوا في إعدادها لتدميري نفسيًّا وإرهاق ذهني إلى الحدّ الذي يدفعني إلى حافة الانهيار.. 
يقولون بأن التدخين مُضرٌّ بالصحة، ولكن في الحالة التي كنتُ فيها ربما كانت السيجارة هي طوق نجاةٍ يمنحني هنيهات أعزّي فيها نفسي، ولكن التدخين كان ممنوعًا، والحصول على سيجارة وفرصة لتدخينها كان حلمًا مُستحيلا.
لا أدري كيف مرّت الشهور الأولى في المعتقل، فقد كانت الدقائق ثقيلةً جدا والساعة كأنما هي دهرٌ يُجرجر وقته عبر طريقٍ وعرة مُوحِلة. ولم يتركوا أسلوبا من أساليب التعذيب الجسدي والنفسي لم يستعملوه ضدي بهدف انتزاع اعترافاتٍ من صدري الذي حوّلته هو أيضًا إلى زنزانة أكثر إحكاما وحراسة من الزنزانة التي ألقوا بي فيها.
كانت تلك الزنزانة ضيّقة جدا لا تكاد تتّسع ليتمدّد فيها إنسان واحد. وكانت معاناتي من قلة الطعام، في فترة ما خلال الشهور الأولى من اعتقالي، بلغت إلى الدّرجة التي أصابني فيها الهزال الشديد ولم أعد أستطيع أن أسند طولي وأقف على قدَمَّي، إضافة إلى سرقة النوم من أجفاني، فلم أكن أحصل على نوم مستمرٍّ ساعات.
بعد أشهر من التعذيب، اقتادوني إلى "غُرف العصافير"، وهي غُرف للخداع يزرعون فيها عملاءهم ويكلّفونهم بأن يمثّلوا دور الوطنيين لنطمئنّ إليهم ونبوح لهم بالمعلومات التي عجزَت أساليب التعذيب الوحشية أن تستخرجها من صدورنا، فيمتلكون الأدلة التي "تضمن" لهم أن يسلّطوا علينا بها أحكام المؤبّد، والحقّ أنهم لم يكونوا عاجزين عن تلفيق أيّ اتهامات ضدّنا وتسليط العقوبات التي يشتهونها علينا.
بعد انتهاء مرحلة التحقيق في المركز العسكري في طولكرم، نقلوني إلى سجن الجنيد المركزي في مدينة نابلس، هذه المدينة التي تُلقَّب بـ "دمشق الصغرى" بسبب تشابهها الكبير مع دمشق من حيث الطراز المعماري، والأسواق القديمة، والأزقة الضيّقة، وحتى طبيعتها الجغرافية المحاطة بالجبال. كما أن نابلس، مثل دمشق، معروفة بصناعاتها التقليدية، مثل صناعة الصابون النابلسي، والحلويات الشرقية وخاصة الكنافة التي تشتهر بها المدينتان.
إضافة إلى ذلك، فإن الحياة الاجتماعية والثقافية في نابلس تحمل طابعًا شبيهًا بدمشق، حيث تكثر العائلات العريقة، والمساجد التاريخية، والأسواق التي لا تزال تحافظ على طابعها التراثي.
وخلال نقلي في "البوسطة"، وهي حافلة مُخصّصة لنقل الأسرى، ضيّقة من الداخل، ومحمية بشكل كبير من طرف الجنود الإسرائيليين الذين يبدون وكأنّهم مرابطين حولها ولا يكاد بعضهم يبتعد عنها إلاّ مسافة قصيرة ثم يعود إلى مكانه أو مَربطه. وتماما كما حدث خلال ترحيلنا الأول، قاموا بضربنا ضربًا مُبرحًا بدون شفقة أو رحمة، مع ما يرافق ذلك من شتائم وإهانات واستفزاز لمشاعرنا..
إنّ اللغة العربية بكل ما فيها من قدرة على البوح والتصوير تبقى عاجزة عن التعبير على الآلام والأوجاع والمَرار الذي تجرّعناه خلال فترة الاعتقال الأولى.