يعتبر الوصول إلى مرحلة اللجان الفنية في مفاوضات غزة علامة على وجود تقدم ملموس، ومع ذلك يبدو أن المقترح الأميركي الجديد، الذي يتماهى مع شروط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لا يهدف فعلياً لوقف الحرب بقدر ما يسعى لتعزيز دور واشنطن كوسيط شكلي، بينما تعمل على تحقيق أهداف أوسع في المنطقة. يتناقض المقترح الأميركي الحالي، بشكل صارخ مع مقترح الرئيس الأميركي جو بايدن الذي قدم في الثاني من تموز/ يوليو 2024. إذ يستجيب المقترح الجديد بشكل كبير للشروط والمطالب الإسرائيلية، ولا يشمل وقفاً دائماً للعدوان الإسرائيلي، حيث يتم تأجيل مناقشة هذه المسألة إلى مرحلة لاحقة. وفي حال عدم موافقة حركة "حماس" على المطالب الإسرائيلية، فإن المقترح يتيح للجيش الإسرائيلي استئناف عملياته العسكرية. علاوةً على ذلك، لا يتضمن المقترح انسحاباً شاملاً من قطاع غزة، بل يترك مسألة انسحاب الاحتلال من محور فيلادلفيا مفتوحة للنقاش. كما يستمر الاحتلال في السيطرة على معبر رفح ومفترق نتساريم، مع مراقبة حركة الناس والنازحين العائدين إلى شمال القطاع، دون تحديد واضح لشكل هذه الرقابة. ومن بين الشروط الأخرى التي أثارت جدلاً، حق إسرائيل في رفض إطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين، وإبعاد عدد كبير من الأسرى الذين سيتم الإفراج عنهم إلى خارج فلسطين. كما تُقيّد المساعدات والإغاثة الإنسانية بشروط صارمة ترتبط بالموافقة على جميع بنود الاتفاق، مما يضع المزيد من الضغوط على الجانب الفلسطيني. في هذا السياق، يمكن اعتبار زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى إسرائيل والمنطقة جزءاً من استراتيجية أوسع تهدف إلى احتواء أي تصعيد قد يقود إلى حرب إقليمية شاملة، خاصة في ظل مشروع الرد الإيراني الذي يتلطّى خلف مفاوضات غزة.
بالإضافة إلى ذلك، تبرز ملامح عودة قوية للحراك الشعبي العالمي ضد الحرب، مما قد يضع الولايات المتحدة في موقف محرج أمام الرأي العام الدولي. يُتوقع أن يؤدي هذا الحراك، إلى جانب تصاعد حدة التنافس الانتخابي داخل الولايات المتحدة، إلى دفع الإدارة الأميركية للبحث عن حلول تُظهرها كوسيط فعال دون المساس بتحالفها الاستراتيجي مع إسرائيل. لكن الواقع يشير إلى أن المقترح الأميركي الجديد وزيارة بلينكن ربما لا يعدوان كونهما تكتيكاً لإدارة الوقت وتهدئة الجبهات الإقليمية والضغط على حركة "حماس"، بدلاً من كونهما مبادرة حقيقية لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة. تمتلك الولايات المتحدة أوراق الضغط الفعالة على إسرائيل، وطالما قبلت "حماس" برؤية جو بايدن وقرار مجلس الأمن الدولي في تموز/ يوليو الماضي، فإن الكرة الآن في ملعب الولايات المتحدة، التي بإمكانها تحديد مسار المفاوضات والحرب في غزة. وستتجه الأنظار في الساعات والأيام الحاسمة القادمة، إلى تحركات الوسيط الأميركي، حيث أن أي خطوة خاطئة قد تترتب عليها تداعيات كبيرة على مستوى الإقليم بأكلمله. في خطابه الذي ألقاه في البرلمان التركي في 15 آب/أغسطس 2024، ركّز الرئيس محمود عباس على دور الولايات المتحدة الأميركية في حرب غزة والصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل عام، واصفاً إياها بـ"الطاعون".
ويمكن القول أن قرار الرئيس عباس بالتوجه مع كافة أعضاء القيادة الفلسطينية إلى قطاع غزة، ودعوته لقادة دول العالم والأمين العام للأمم المتحدة لتأمين وصولهم، جاء في إطار الضغط على الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وعلى المجتمع الدولي أيضاً لتحمل مسؤولياته في حماية الشعب الفلسطيني وتقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة ؛ هذه المساعدات التي جعلها المقترح الأميركي مشروطة بالموافقة على جميع البنود، في تحدٍ واضح لقرارات محكمة العدل الدولية التي أمرت بوضوح و"دون تأخير" بالسماح "بتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية لقطاع غزة". في ظل التحديات الحالية، فإن المنطق الوطني يقتضي من حركة "حماس" وكافة الفصائل الفلسطينية الاستجابة لدعوة الرئيس أبو مازن لتوحيد الصف الفلسطيني، واستنفار الجهود لزيادة الضغط على الولايات المتحدة من خلال الوسطاء والدول العربية والإسلامية والصديقة، وتعزيز الدبلوماسية الشعبية داخل الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لإيران أن تسهم بشكل فاعل باستخدام ورقة الرد المشروع على إسرائيل لزيادة الضغط على الولايات المتحدة ودفعها نحو إعادة النظر في مواقفها بما يفضي إلى إنهاء العدوان ومأساة شعبنا في القطاع.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها