بقلم الكاتبة الفلسطينية "نهى عودة"

لم أكن قد بلغت الرابعة عشر بعد عند الاجتياح الصهيوني لبيروت في عام 1982.. كان القصف يقترب من مخيّمنا، ودويّه يصمّ آذاننا، أثار فينا الفزع والخوف والرعب، وبدأنا بالصُّراخ. كان بجوارنا منزل الحاج "أبو محمد شحادة" المتألف من طبقتين، وقد هُدِم تماما. دبّ الذعر في الناس، وانطلقوا هاربين إلى الملاجئ.. زمّور الخطر لم يتوقّف، ورعبنا كان يزداد بشدّة، ونحن نتراكض وسط القصف إلى الملاجئ.

كان هناك الكثير من الملاجئ في مخيم "شاتيلا".. عائلتي التجأت إلى ملجأ "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" الذي كان الأقرب إلى مسكننا في المخيم. كنتُ أنا وأمي وأختي وابنتيها في سنّ الرضاعة، لم نأخذ شيئًا من بيتنا، فقد خرجنا مُسرعين من هول القصف والرّعب من بيت الجار الذي تهدّم عن آخره.. لم نأخذ حتى حليب الرّضيعتين وما يلزمهما من أشياء صغيرة مثل الحفّاظات.. كنّا نعتقد بأنها أشياء صغيرة، ولكنها صارت مشكلة كبيرة، لأنّها أشياء صغيرة ولكن يصعب توفيرها في تلك الظروف المرعبة!

بعد معاناة وصعوبة كبيرة، خرجنا من المخيم نحن والأطفال، واختبأنا في مبنى خارج المخيم، لعلنا نسترجع بعض هدوئنا ونلتقط أنفاسنا التي كانت تبدو كأنّها الأنفاس الأخيرة.. لم نعلم ماذا حدث بالضبط، ثم تبيّن لنا أن جيش الكيان الصهيوني قد تبع الفلسطينيين حتى وهم في مخيّمات اللجوء والتّهجير.. غير أنّه اصطدم بمقاومة عنيفة من الفلسطينيين مدعومين ببعض الإخوة اللبنانيين.

أخذتنا أمي إلى الدرج السفلي في ذلك المبنى، دون غطاء أو طعام.. كان همّها أن تهرب بنا من القصف. كان الوقت متأخّرًا ونحن في الدّرج السفلي، وبقينا هناك حتى سقسق الفجر.. مرّت بجانبنا سيّدة عجوز أنهكتها سنين العمر، فرقّ قلبها لحالنا، وقد كانت على علم بكل ما حدث.. فعرضت أن تستضيفنا في بيتها، غير أنّ أمي تمنّعت في بادئ الأمر، ولكنها سرعان ما قبِلت، فصعدنا مع السيّدة الكريمة إلى بيتها.

طلبت منا السيدة الكريمة أن نأخذ حمّامًا ساخنا، ثم أحضرت الطعام لنا.. وبقينا معها في منزلها. وكانت المرة الأولى التي أدرك فيها بأنّ هناك حياة مختلفة خارج المخيّم، حياة لا أعرف ملامحها ولا طرقاتها ولا ألوان الجدران داخل غرفها، لم أكن أعلم بأنَّ الصور لها ماهيتها الخاصة، وأنَّ الأشياء تختلف باختلاف الأمكنة.. إلى وقت طويل، كنت أعتقد بأنَّ الكون بتفاصيله المتعددة هو مخيم "شاتيلا" فقط والوطن الذي أسمع عنه.