بقلم: بلال غيث كسواني
منذ بدء عدوانه الشامل على شعبنا في تشرين الأول/أكتوبر 2023، يحاول الاحتلال الإسرائيلي بشتى الطرق والوسائل، استهداف الوجود الفلسطيني، عبر حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها في قطاع غزة، أو من خلال الجرائم اليومية في الضفة الغربية، بما فيها مدينة القدس المحتلة، من اقتحامات وعمليات إعدام وقتل واعتقالات وهدم للمنازل والمنشآت، إضافة إلى التوسع الاستعماري وشرعنة البؤر الاستعمارية وقطع الأوصال بين المحافظات الفلسطينية.
مدينة القدس، التي عزلها الاحتلال الإسرائيلي عن محيطها بجدار الفصل والتوسع العنصري، وبالحواجز العسكرية التي تحيط بها من كل جانب، تتسارع وتيرة الاستهداف للوجود الفلسطيني وهوية المدينة العربية، الإسلامية والمسيحية، في محاولة لتهويد المدينة ومعالمها وتهجير سكانها.
وفي آخر تلك المحاولات، أبلغت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، كنائس المدينة المقدسة، إضافة إلى كنائس في يافا والناصرة والرملة، بأنها ستبدأ بما أسمتها "إجراءات قانونية" ضدها بسبب عدم دفع الضرائب على العقارات التي تملكها، في استهداف قديم جديد للكنائس وأملاكها الوقفية، وللوجود الفلسطيني المسيحي في القدس وداخل أراضي الـ48.
والمسيحيون الفلسطينيون هم من أقدم الجماعات المسيحية في العالم، وترتبط بعض الأسر المسيحية الفلسطينية بالنسب مع المسيحيين الأوائل، ولهذا السبب يُطلق على المسيحيين الفلسطينيين اسم الحجارة الحية.
ووقع رؤساء الكنائس والبطاركة الذين يمثلون بطريركية الروم الأرثوذكس، وبطريركية الأرمن الأرثوذكس، والبطريركية اللاتينية، والكنيسة الأسقفية الأنجليكانية، وحراسة الأراضي المقدسة، رسالة مشتركة، شجبوا فيها هذه الإجراءات باعتبارها انتهاكًا للقانون الدولي، منددين بالهجوم على الكنائس والوجود المسيحي في الأراضي المقدسة، مؤكدين أن هذه الإجراءات تسيء للحقوق التاريخية والقانونية للكنائس وتتعارض مع الاتفاقيات السابقة بين الكنائس وإسرائيل، كما أنها تنتهك اتفاق الوضع القائم.
وفي عام 1852، أصدرت الدولة العثمانية سلسلة مراسيم لإدارة الأماكن المقدسة المسيحية في القدس، وذلك لتنظيم الوصول إليها، ليُكرس هذا التنظيم في القانون الدولي ضمن معاهدة برلين عام 1878، ويدعى رسميًا اتفاق الوضع القائم أو الراهن (ستاتيكوStatus Quo ).
وضمن معاهدة برلين، توسع القانون ليشمل الأماكن الدينية الإسلامية واليهودية في القدس، ليصبح بعدها اتفاق الوضع القائم في القدس قانونًا دوليًا ملزمًا. ولاحقًا، تسلمت المملكة الأردنية الهاشمية الوصاية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، كجزء من اتفاق الوضع القائم.
وأكد عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، رئيس اللجنة الرئاسية العليا لمتابعة شؤون الكنائس في فلسطين، رمزي خوري، أن السياسات والإجراءات الاحتلالية الممنهجة لفرض الضرائب على الكنائس وأملاكها ومؤسساتها في القدس المحتلة تهدف للضغط على الوجود المسيحي الأصيل وتهجيره قسريًا، وبسط سيطرة الاحتلال الكاملة على تلك الكنائس وأملاكها.
ورحب خوري في بيان صدر عن اللجنة بالمواقف المبدئية والثابتة والشجاعة لبطاركة ورؤساء الكنائس الرافضة لتلك الإجراءات غير القانونية، مشددًا على دعم اللجنة للقرارات كافة التي تم اتخاذها لمواجهة هذه السياسات والإجراءات الاحتلالية في استهداف الكنائس.
وحذر خوري من خطورة تنفيذ هذه المخططات الإسرائيلية، وبشكل خاص على الوجود المسيحي، خاصة في ظل التحديات والصعوبات التي تعصف بالقضية الفلسطينية جراء السياسات الإسرائيلية، وحرب الإبادة على قطاع غزة، وتصاعد وتيرة العنف تجاه الكنائس وأملاكها والاعتداء على رجال الدين من قبل المستعمرين.
وأكد خوري أن كافة الكنائس وأملاكها، سواء الأديرة أو المستشفيات أو المؤسسات أو المدارس وغيرها، وبشكل خاص في القدس، تقع في أرض فلسطينية محتلة وفقًا لقرارات الشرعية الدولية، وهي أيضا حق تاريخي وقانوني للكنائس ومن غير المسموح لأي جهة كانت التدخل بها أو انتهاك حرمتها، مضيفًا أن إسرائيل وعلى مدار سنوات احتلالها الطويلة وبكافة حكوماتها المتعاقبة، تنتهك وتعتدي على الوضع القائم "الستاتيكو".
وناشد رئيس اللجنة، قادة ورؤساء الكنائس في العالم، خاصة مجلس الكنائس العالمي، وكافة المؤسسات الحقوقية والدولية، بالتدخل الفوري لوضع حد للانتهاكات الإسرائيلية بحق الكنائس وممتلكاتها، مشيرًا إلى أن اللجنة قد حذرت في وقت سابق، وخلال جولاتها في العديد من دول العالم، من خطورة وتأثير هذه السياسات على الوجود المسيحي والكنسي.
وأكد منسق مكتب مجلس الكنائس العالمي في القدس يوسف ضاهر، أن الهدف مما يجري هو الاستيلاء على العقارات المسيحية في القدس.
وقال ضاهر: أن "فرض إجراءات قضائية بحق الكنائس في محاكم الاحتلال هو تغيير للوضع القائم، مشيرًا إلى أن إسرائيل لم تعد تحترم اتفاق الوضع القائم والقوانين الدولية ذات العلاقة".
وعقب احتلالها للجزء الشرقي من مدينة القدس في حزيران/يونيو 1967، اعترفت إسرائيل باتفاق الوضع القائم بصورة شكلية لتجنب التصعيد والهجوم الدولي، لكن إجراءات وممارسات حكومات الاحتلال المتعاقبة منذ ذلك الحين حتى اليوم، خرقت هذا الاتفاق بصورة متكررة.
ويستند الوضع القانوني الخاص للمدينة، إلى القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، وأبرزها القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقرار مجلس الأمن الدولي 242 وما تلاهما من قرارات أبرزها 252 و267 و2334 وغيرها، والتي دعت إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلّتها عام 1967، ومن بينها القدس، وبطلان الإجراءات الإسرائيلية الأحادية في الأراضي المحتلة، ومن بينها المدينة المقدسة، بما في ذلك إقامة المستعمرات وتغيير وضع المدينة وطابعها.
وأكد ضاهر أن فرض ضرائب على الكنائس، سيشل الوضع المالي لكل المؤسسات المسيحية، حيث سيتبعه إغلاق حساباتها في البنوك وعدم إعطاء التراخيص المطلوبة للعمل وكذلك منع تصاريح التنقل وتأشيرات الدخول إلى فلسطين للمطارنة والكهنة ورجال الدين القادمين من خارجها، مشيرًا إلى أن رفع قضايا على الكنائس في المحاكم الإسرائيلية، سيؤثر على الخدمات التي تقدمها عبر مؤسساتها الطبية والتعليمية وغيرها، مؤكدًا أن المؤسسات الفلسطينية وأبناء مدينة القدس سيتخذون الإجراءات المناسبة ردًا على هذا الانتهاك، مذكرًا بما حدث عام 2018 عندما أغلقت كنيسة القيامة أبوابها احتجاجًا على فرض الضرائب على كل ما هو فلسطيني مسيحي في القدس.
وفي عام 2018، أغلقت كنيسة القيامة في البلدة القديمة في القدس المحتلة أبوابها، وصمتت أجراسها، احتجاجًا على إعلان سلطات الاحتلال الإسرائيلي عزمها فرض ضرائب على الكنائس، وإقرار قانون يتيح الاستيلاء على أملاك تتبعها، في خطوة اعتبرت عدوانا على القدس ومقدساتها. وفي ظل الاحتجاجات والضغوط الدولية تراجع الاحتلال حينها عن هذه الخطوة.
وأوضح ضاهر أن استهداف الوجود الفلسطيني المسيحي والإسلامي في القدس يهدف إلى إفراغ المدينة وتهويدها، مشيرًا إلى أن الاحتلال يعتقد أن الوجود المسيحي أضعف وأنه سينجح في الاستيلاء على عقارات الكنائس وتهجير المسيحيين من المدينة ومن فلسطين ككل، إلا أن وجودنا المسيحي متجذر في المدينة المقدسة منذ أكثر من ألفي عام وأقدم بكثير من عمر الاحتلال.
وقال الأب عبد الله يوليو، من كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك في القدس: "أن الاحتلال الإسرائيلي يهدف إلى إنهاء الوجود العربي المسيحي في القدس وداخل أراضي الـ48، والمطلوب منّا توحيد صفوفنا كشعب عربي فلسطيني للدفاع عن كنائسنا ومساجدنا في وجه التهويد والاحتلال"، مؤكدًا أن مجموعات استعمارية تعمل في الخفاء من أجل الاستيلاء على الممتلكات المسيحية في القدس المحتلة، داعيًا إلى توحيد الخطاب الكنسي المسيحي الموجه للعالم، لوضع حد لاستهداف الوجود المسيحي.
وأكد منسق منتدى مسيحيي الأرض المقدسة، وديع أبو نصار، أن وجود تفاهمات واضحة وقائمة منذ أيام الدولة العثمانية يشير إلى أن فرض إجراءات أحادية الجانب بحق الكنائس "غير أخلاقي"، لافتًا إلى الاتفاقية الموقّعة بين إسرائيل والفاتيكان منذ عام 1993، بإبقاء الوضع على حاله حتى يتم الاتفاق على أمور جديدة، مشيرًا إلى أن بلديات الاحتلال تغير الإجراءات الموجودة بطريقة القرصنة والاستيلاء على أملاك الكنائس، والحكومة الإسرائيلية تقف متفرجة ولا تحرك ساكنًا، متطرقًا إلى الخدمات التي تقدمها الكنائس في القدس وداخل أراضي الـ48، مشيرًا إلى أن العربي الفلسطيني في إسرائيل لا يحصل على حقوق متساوية مثل غيره، ويتعرض للظلم، والمجتمع الدولي في هذا الشأن تأثيره محدود، مؤكدًا أن الكنائس ستحتج على هذه الإجراءات بكل الطرق الدبلوماسية والدينية والنضالية من أجل وقفها، كما جرى قبل 6 سنوات.
وقال أبو نصار: "نحن في معركة لا يوجد لها نهاية، يمكن أن يتم تهدئة التوتر كما حدث في 2018 ولكن ما أخشاه ألا يكون هناك حلاً قريبًا للقضية، فالكنائس في وضع صعب، وتواجه العديد من الإشكاليات تتعلق بالاستيلاء على أراضيها وممتلكاتها".
وأثار قرار الاحتلال فرض ضرائب على الكنائس ردود فعل محلية ودولية.
وأدانت وزارة الخارجية والمغتربين فرض إسرائيل، سلطة الاحتلال غير الشرعي، الضرائب على الكنائس ومؤسساتها وممتلكاتها المختلفة، مشددة على أنه لا سيادة لإسرائيل على مدينة القدس، وأن السيادة فيها خالصة للشعب الفلسطيني وقيادته.
ورفضت "الخارجية" في بيان لها هذه الإجراءات غير القانونية واعتبرتها جزءًا من حرب الإبادة والتطهير العرقي الذي تمارسه إسرائيل ضد أبناء شعبنا الفلسطيني كافة، وخاصة ضد الوجود المسيحي الفلسطيني الأصيل في أرض فلسطين المقدسة، وفي القلب منها القدس، منبهةً إلى أن استهداف إسرائيل، سلطة الاحتلال غير الشرعي، وادواتها المختلفة للوجود المسيحي والاضطهاد الممنهج والاعتداءات ضد الشعب الفلسطيني وابنائه من المسيحيين ورجال الدين هو استهداف متعمد غرضه الأساس تقويض الوجود المسيحي الفلسطيني الأصيل في أرضه المقدسة، وتحويل الصراع السياسي ووجود الاحتلال غير القانوني الى صراع ديني.
وثمنت "الخارجية" مواقف البطاركة ورؤساء الكنائس الرافضة لهذه الاجراءات غير القانونية، ودعت الدول لدعم مواقف الكنائس وموقف دولة فلسطين، والتدخل لوقف ومنع هذه السياسات والانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، والوضع التاريخي والقانوني القائم، واتخاذ خطوات عقابية ضدها، وخاصة الدول التي تدعم وتحافظ وتحترم الوضع القانوني والتاريخي القائم، مطالبة جميع الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية، وجميع المؤسسات المسيحية وغيرها من مؤسسات حقوق الانسان، لتوجيه رسالة واضحة لإسرائيل للتوقف عن استهداف الكنائس وممتلكاتها، والتلويح باتخاذ خطوات عقابية ضد هذه الممارسات الاستفزازية وغير القانونية.
كما أدان البرلمان العربي، فرض الضرائب على الكنائس ومؤسساتها في مدينة القدس، في تحدٍ صارخ وانتهاك جسيم للقانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، داعيًا الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ومجلس الأمن إلى التحرك الفوري والعاجل لإيقاف هذه المخططات الإسرائيلية الاستعمارية، التي تهدف إلى تغيير الوضع التاريخي والقانوني القائم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتخلي عن الصمت والتصدي لهذه الجرائم العنصرية، وتفعيل آليات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ومساءلة مرتكبي هذه الجرائم تحقيقًا للعدالة وإنصافًا للشعب الفلسطيني، الذي تمارس بحقه كل جرائم الحرب، على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وتوفير الحماية الدولية له.
من جانبها، أعربت منظمة كنائس من أجل السلام في الشرق الاوسط (CMEP) عن تضامنها مع الكنائس في الأراضي المقدسة، في الوقت الذي تخضع فيه لمحاولة جديدة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي لتحصيل الضرائب على ممتلكاتها، معتبرة أنها خطوة تهدد استدامة عمل الكنائس.
وقالت المنظمة في بيان لها: أنها "تدرك الضرر الذي يمكن أن تسببه هذه الإجراءات القانونية للوجود المسيحي الآخذ في التقلص في هذه الأرض"، مطالبة حماية الوضع القائم الذي يضمن الحرية الدينية والوئام في الأراضي المقدسة.
وأضافت: أن هذه الضرائب، يمكن أن تسبب ضررًا لا يمكن إصلاحه للكنائس والمجتمع المسيحي والخدمات الاجتماعية العديدة التي تقدمها، بما في ذلك المدارس والكنائس ودور المسنين والمستشفيات ورياض الأطفال ودور الأيتام، وستضطر الكنائس للتوقف عن الاستمرار بتقديم هذه الخدمات الاجتماعية.
وتشير التقديرات إلى أن عدد الفلسطينيين المسيحيين يصل إلى 2.3 مليون نسمة، أغلبيتهم المطلقة تقيم خارج فلسطين، حيث لا تتجاوز نسبة المسيحيين في الأرض الفلسطينية المحتلة 1%، بعد أن كانوا يشكلون قبل نكبة عام 1948 حوالي 11.2%، والسبب لهذا الانخفاض هو الهجرة التي لعب الاحتلال الإسرائيلي دورًا رئيسيًا فيها.
ووفقًا للإحصاءات، يبلغ عدد الفلسطينيين المسيحيين في الأرض المحتلة عام 1967، نحو 50 ألفًا، منهم أقل من 10 آلاف في القدس المحتلة و40 ألفًا في سائر المحافظات الفلسطينية في الضفة الغربية، و850 مسيحيًا في قطاع غزة، تراجع عددهم بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع إلى أقل من 500.
كما يبلغ عدد الفلسطينيين المسيحيين داخل أراضي الـ48 نحو 110 آلاف، من مجموع السكان البالغ 9 ملايين نسمة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها