الخلافات "المعلنة" بين الرئيس الأميركي بايدن ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي نتنياهو والمتعلقة بكيفية إدارة العدوان المتواصل على قطاع غزة واليوم التالي للحرب، أخذت مساراً آخراً من التباين في وجهات النظر، وانتقلت إلى حرب الخطابات، مُتجاهلة بذلك بروتوكولاً متفق عليه بين الديموقراطيين منذ عهد باراك أوباما وإسرائيل - والتي كان رئيس وزرائها في حينه هو الحالي نتنياهو، جوهره "يجب تسوية الخلافات بين الطرفين خلف الأبواب المغلقة وليس على وسائل الإعلام". لكن مع إعلانه المفاجئ عن بنود خطة خارطة الطريق لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة دون إشعار نتنياهو مسبقًا، يبدو أن الرئيس بايدن قد تخلى عن هذا الاتفاق. ولم يتأخر الرد من مكتب نتنياهو الذي أعلن في بيانه أن "فكرة موافقة إسرائيل على وقف دائم لإطلاق النار قبل تحقيق جميع أهداف الحرب هي فكرة غير مقبولة".

داخلياً، لم يكد الرئيس الأميركي أن ينهي خطابه، حتى طالب السيناتور الجمهوري والحليف الموثوق لإسرائيل ليندسي غراهام الرئيس بايدن "أن يكون واضحًا تمامًا بأن اقتراح وقف إطلاق النار لا يمنع إسرائيل من مواصلة العمليات العسكرية في قطاع غزة". وبالمثل تسابق العديد من زملائه لتأكيد ما يسمونه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، والتشديد على ضرورة تزويدها بكافة أنواع الأسلحة التي تريدها من أجل "إكمال المهمة". وتأكيداً على الولاء لإسرائيل، وجه كبار قادة الكونجرس دعوة خاصة لنتنياهو لإلقاء خطابًا أمام المشرعين يوم 13 من الشهر الجاري. في رسالة واضحة وصلت سريعاً إلى بريد البيت الأبيض، مفادها عدم تكرار الخطأ "التاريخي" الذي ارتكبه باراك أوباما عام 2015، عندما حاول الضغط على نتنياهو لوقف بناء المستوطنات باعتبارها غير شرعية ولا تخدم حل الدولتين.
الدعوة الرسمية لاعتلاء منصة الكونجرس، سبقها تقديم تأكيدات على عدم سريان مفعول القوانين الدولية على كل من نتنياهو ووزير دفاعه لمحاسبتهم على ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية في قطاع غزة، عبر توجيه 12 عضواً من أعضاء الكونجرس رسالة تهديد مباشرة إلى المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية كريم خان، يقولون فيها: "إذا استهدفت إسرائيل، فسنستهدفك".

في سياق تذكير المدعي العام وطاقمه القضائي بسيادة قوانين البلطجة الأميركية على حساب سيادة القانون الدولي. عندما أصدر الكونغرس الأميركي في صيف عام 2002، قانوناً يحمل الرقم S.1610-107th Congress(2001-2002) المعروف بإسم "قانون غزو لاهاي"، ووقعه الرئيس الأميركي جورج بوش، يُصرح للرئيس - بعد إخبار الكونجرس بالمبررات، باستخدام جميع الوسائل الضرورية والمناسبة بما فيها القوة العسكرية لإطلاق سراح أي شخص محتجز أو مسجون من قبل المحكمة الجنائية الدولية أو نيابة عنها أو بناءً على طلبها. ويشمل الأشخاص الموصوفين أي "مواطن أميركي مدني أو أحد أفراد القوات المسلحة الأميركية أو العاملين نيابة عن حكومة الولايات المتحدة أو ضمن تحالفاتها الدولية"، و"يمتد هذا الغطاء القانوني ليشمل الأشخاص المشمولون في الولايات المتحدة، والدول أو الأشخاص المتحالفون المشمولون الحليف المغطى السياسي والعسكري وهذا يشمل إسرائيل وعدد من الدول الأخرى". بعبارة أخرى، بينما تسعى الدول المصادقة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية إلى تعزيز سيادة القانون الدولي، تدفع واشنطن عبر قوانينها الخاصة إلى ترهيب الدول وقضاة المحكمة والتعامل معهم كأعضاء في منظمة إرهابية تحتجز مواطنين أو عسكريين أميركيين أو آخرين من حلفائها، وبإمكانها/ واشنطن تنفيذ ما تراه مناسبًا من أحكام ضد قضاة المحكمة ورئيسها في سياق القانون الأميركي الخاص بعد اعتقالهم من لاهاي.

في السياق، وبالتزامن مع السعي الدائم لترسيخ عالم قائم على القواعد الأميركية الخاصة التي تعفي إسرائيل وقادتها من المحاسبة، صوت مجلس النواب يوم امس 5 حزيران/يونيو الجاري، بأغلبية 247 صوتًا – بمن فيهم 42 عضوًا ديموقراطيًا مقابل 155، لصالح تمرير مشروع قانون قدمه الجمهوريون يفرض عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية ردًا على سعي الأخيرة إصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
ومع انطلاق سباق الانتخابات الأميركية يسعى أعضاء الكونجرس من كلا الحزبين الموالين لإسرائيل للحفاظ على مقاعدهم وتأمين تدفق مالي مريح لحملاتهم الانتخابية عبر قنوات اللوبي المحشوة بملايين الدولارات، ولم يقتصر هذا النفاق على اغراهام أو حتى نيكي هيلي – المرشحة الرئاسية السابقة، التي جددت خلال زيارتها الأخيرة لإسرائيل التزامها بالدعم الكامل لحليف بلادها الموثوق، وظهرت وهي تكتب بتفاخر على إحدى القنابل الإسرائيلية عبارة "إنهوهم... أميركا تحب إسرائيل دائمًا". بل سارع قادة الكونجرس الأربعة، زعيم الأغلبية في مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الديموقراطي تشاك شومر وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل وزعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفريز، لتوقيع خطاب دعوة رسمية لنتنياهو، الذي جاء فيه "نيابة عن قيادة الحزبين لمجلس النواب الأميركي ومجلس الشيوخ الأمريكي، نود أن ندعوكم لإلقاء كلمة في اجتماع مشترك للكونغرس".

بينما يتصاعد الخلاف بين أعضاء الكونجرس من الحزب الديموقراطي على هذه الدعوة المشؤومة، توعد فريق من الجناح الليبرالي في الحزب الديموقراطي بمقاطعة الخطاب المنتظر، وعدم الحضور، وأكد السيناتور بيرني ساندرز بأن "دعوة نتنياهو لإلقاء خطاب أمام الكونغرس تمثل يومًا حزينًا للولايات المتحدة، فهو مجرم حرب ولا ينبغي أن توجه له هذه الدعوة، وليس من حق إسرائيل أن تحكم على مئات الآلاف من الأطفال بالموت جوعَا في غزة لذلك "قررت أن لا أحضر". ويرى فريق آخر ضرورة الحضور لتعطيل الخطاب والتشويش على نتنياهو، وفي مقدمتهم النائب مارك بوكان الذي قال: "أعتقد أننا بحاجة إلى الحضور لتسليط الضوء على وجه نتنياهو الحقيقي".

ووسط هذا الجدل العميق بين معارض ومؤيد لخطاب نتنياهو، يحاول الرئيس بايدن تلمس خطواته لإيجاد نقطة توازن، تمنع إنهيار حزبه، وتضمن إعادة تأمين الأصوات الممتنعة لصالح صندوقه الانتخابي يوم 5 نوفمبر. ويسعى جاهدًا لتخليد عبارته الشهيرة "أميركا دولة لا غنى عنها". في الوقت الذي يعمل فيه ترامب على تثبيت شعاره "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، ورد الصفعة التي وجهتها له محكمة نيويورك، لكن هذه المرة ليست من قاعة محكمة ابن الرئيس هانتر بايدن، بل من داخل الكابيتول هيل، عبر دفع قادة حزبه لتبني هذه الدعوة المثيرة للجدل.
على هذا النحو، يبدو أن العديد من أعضاء الكونغرس خاصة من الحزب الديموقراطي بدؤوا يبحثون عن مصالحهم الشخصية بعيدًا عن المغامرات غير المحسوبة للرئيس بايدن من وجهة نظرهم، وتجنبًا لأي مفاجآت يحضرها لوبي إسرائيل قد تطيح بالرئيس عن كرسي البيت الأبيض، في حال استمر في محاولاته "المعلنة" إلى وقف العدوان على قطاع غزة حتى لو كان وقفاً مؤقتاً، دون موافقة نتنياهو.
وإلى أن يحين موعد الخطاب المشؤوم، سيسعى أعضاء الكونغرس الموالون لإسرائيل لتسجيل رقم قياسي جديد من التصفيق الحار "45 تصفيق" كان قد حصل عليها نتنياهو في خطابه عام 2015، تأكيدًا منهم على ما قاله كبير الموظفين في إدارتي الرئيسين نيكسون وريجن، بات بوكانان أن "الكونغرس أرضًا تحتلها إسرائيل".