أعترف بأنني، وكلما واجهت سيرتي الشهيدين عبد القادر الحسيني، وابنه فيصل الحسيني أشعر بالفخر لهذا الحضور الوطني الذي يتقدم كل ما هو حميم وجليل في السيرتين، ذلك لأن الرجلين، الأب والابن، أوقفا حياتيهما من أجل هذا البعد الوطني، وفحواه العيش في وطن عزيز، والدفاع عنه وحمايته من كل شرور الدنيا.

لقد تقفى فيصل الحسيني سيرة والده، وعرف ما فيها ووعاه، فمشي في دربه، وقال قولته، ونادى بما نادى به، وعزم على ما عزم عليه، فحاز رتبة الشرف التي حازها والده الذي استشهد في معركة القسطل عام 1948؛ لقد ولد في بغداد، يوم كان والده يعد نفسه ليكون جنديا في المعركة الفاصلة مع الإنكليز والعصابات الصهيونية سنة 1940، وجال في بلدان عدة، مثلما جال والده، ودرس وتعلم وتثقف ودرس كل ما ظنه مفيدًا لتحرير فلسطين وافتكاكها من بين أيدي الإنكليز والصهاينة. درس في سورية العلوم العسكرية ليكون جنديًا محترفًا بين الجنود المحترفين، وانخرط في التشكيلات السياسية والعسكرية التي أنشأتهام.ت.ف في منتصف عقد الستينيات وهو في طراوة العمر، وقرأ دروس حركات التحرر العالمية، وتعلم منها الكثير، وقرأ أدبيات الاستعمار ووقف على غاياتها، وبذلك قوى عزيمته فقال جهرا وتوكيدا بأن الشعوب لا تهزم. قد تخسر معركة أو معارك، وقد تفوتها فرصة أو فرص، ولكنها في الخواتيم محكومة بالظفر، مثلما هي طبيعةالظلموتالمحكومة بالمحو والتبدد.

فيصل الحسيني، عاش النضال من أجل حرية فلسطين في كل لحظة عمر عرفها، أي منذ أن كان يواقف صفحات سيرة والده عبد القادر الحسيني المكتوبة، ومنذ أن بدأ الانصات لعارفيه وهم يروون عنه الأخبار والقصص، ويصفون مواقفه الوطنية؛ لقد عرف مفهومات الوطن، والعروبة، والإخاء، والعزة، والاخلاص، والغدر، والخيانة، والبطولة، والشجاعة، التضحية، والفداء،  والكرامة، وهي مشروحة بالأحداث والحادثات داخل سيرة والده، لهذا كان ثائرًا، وصاحب صوت وطني نقي، وهو طالب على مقاعد الدرس، وكان أحد قادة الطلاب الفلسطينيين في مصر، جامعة القاهرة، في الخمسينيات، وكان الوطني الثائر المقاتل في الخنادق حين كان ضابطًا في جيش التحرير الفلسطيني، وكان الوطني الثائر في أثناء حرب 1967، وقد سجن لحيازته الأسلحة.

أسس، في القدس "بيت الشرق" ليكون الحافظة التاريخية للوثائق الوطنية الفلسطينية من جهة، وليكون المكان الذي يقدم الدراسات المستقبلية في كل شؤون الحال الفلسطينية، وقد غدا بيت الشرق ظاهرة ثقافية وسياسية واجتماعية في مدينة القدس، الأمر الذي أغضب سلطات الاحتلال الإسرائيلي فأغلقته بقرار من وزارة جيش الاحتلال بحجة أن كل ما هو وطني، من كتب، وندوات، ومؤتمرات، وتظاهرات فلسطينية، ومقولات سياسية. وهي نابعة من بيت الشرق، وموجهة من قبل فيصل الحسيني.

وحين أغلق بيت الشرق، لم يستسلم فيصل الحسيني، بل ضاعف  من نشاطه الوطني وفي جميع الاتجاهات فكان عضوًا في الوفد الفلسطيني الذي شارك في مؤتمر مدريد 1991، وكان عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان طوال سنوات، المسؤول عن ملف القدس، والمدافع عن روحها الفلسطينية تجاه محاولات الاستيطان، وبناء الجدار العازل، والانتهاكات الإسرائيلية الموجهة ضد الجامعات والمدارس والحرم القدسي والكنائس، والأسواق، وحرية الناس في التنقل، وممارسة حياتهم الشخصية، وكان ضد القرارات التعسفية التي كانت تصدرها السلطات الإسرائيلية، وفي مقدمتها اعتقال المواطنين، ومصادرة البيوت، والإقامة الجبرية، ومنع السياح من الوصول إلى الأسواق الفلسطينية لشل الحياة الاقتصادية، وإقامة الحواجز ما بين الحي والحي، والساحة والساحة، والشارع والشارع.

لقد عاش فيصل الحسيني تفاصيل الحياة في القدس، ووعى ما يريده العدو الصهيوني من قمع للناس فوق الأرض، ومن التنقيب حفرًا تحت أرض الحرم القدسي لعلهم يجدون شيئا يؤيد ما يذهبون إليه من قولات تاريخية هم الناطقون بها لا التاريخ، وقد كانت ردود فيصل الحسيني على الأفعال الإسرائيلية الناقصة ردود ابن الوطن الحر الذي لا يهاب وعيدًا أو تهديدًا، وقد تعرض لمحاولات اغتيال عدة، وهو يتقدم صفوف التظاهرات الوطنية التي كانت تعم شوارع القدس.

فيصل الحسيني الذي قرأ سطور والده المعاتبة لبعض الحكام العرب حين خاطبهم: أمدوني بالسلاح، ولا تخذلوني، ولا تخذلوا فلسطين، كي لا تسقط القسطل "القلعة" لأنها إن سقطت سنعض الأصابع ندما! وبكى فيصل الحسيني مثلما بكى والده حينما خذل! وبكى مثلما بكى أهل الوطنية، عشاق العروبة والحرية والعدالة، وهو طالب يدرس تماهيد الجغرافية والتاريخ، فوعى أن الخذلان طال كل جوانب المأساة الفلسطينية، ووعى أن الحياة وقفة عز، وأن المجد ستتجلى صوره حين تهل فجريات الوطن شارقة بعد ليال طوال من عتمة غامقة.