في زمن حرب الإبادة الوحشي ترجل والدي عن مسرح الحياة في بيتي في مخيم الشاطئ بمدينة غزة فجر الأربعاء الموافق 14 شباط / فبراير 2024، فجر عيد الحب والسلام والمحبة بين بني البشر. وكأن فراقه في عيد الحب وتبادل الورود، كان جزءً من لعبة القدر، أو هي الصدفة الضرورة في الفلسفة وادراكًا منه، أن لغة البارود والقنابل والصواريخ والحصار والتجويع والعقاب الجماعي والفتك بالبشر والشجر والحجر طغت على المشهد، واسقطت لغة التسامح والحب والسلام في غياهب الموت الأسود المعلن، وبات الحريق والنار في ارض الرباط والكفاح الوطني التحرري عنوان المرحلة، وانطوت صفحة الأمل بصناعة سلام الممكن المقبول فلسطينيًا بعد إشعال العدو الصهيو أميركي في أعقاب ال7 من أكتوبر 2023 حرب الإبادة الجماعية على الشعب العربي الفلسطيني عموما وفي قطاع غزة خصوصًا، وفي اليوم 130 من حرب الأرض المحروقة شاء والدي الحبيب الحاج حلمي عاشور الغول الطلاق مع الحياة الدنيا الفانية احتجاجا ورفضَا للموت الوحشي، الذي فرضه الغرب الأمبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ولقيطتهم دولة إسرائيل المارقة، التي أودت بحياة 28 الف شهيد و67 الف جريح و10 آلاف مفقود وجلهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير مئات الالاف من الوحدات السكنية والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والبنى التحتية، وطوفان النزوح الداخلي الذي فاق 1,5 مليون انسان بقرار من جيش الموت الإسرائيلي ومرتزقته والجيوش الغربية، ومازالت قوى الأعداء تواصل حرب الإبادة والتجويع والتهام أجساد الأطفال والنساء وقودًا لحربها البربرية الجديدة. 


وكشفت حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني عن صعود النازية الإسرائيلية الأميركية إلى أعلى درجاتها، وفاقت في وحشيتها وهمجيتها وفظائعها وترويعها لبني الإنسان في فلسطين المحتلة كل النماذج الوحشية النازية عبر حقب التاريخ المعاصر والقرون الوسطى، حيث باتت المستشفيات ومراكز الإسعاف الأولى والمدارس أهدافًا لصواريخهم وقنابلهم التي لا ترحم، فبإبادت الإنسان والحيوان والحجر والشجر ومعالم الحياة كافة. 
والدي العظيم الذي رآى النور في نهاية عام 1929 وتلمس بواكير الصراع في طفولته مع الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية في زمن الثورة الفلسطينية الكبرى والأولى 1936 / 1939، وعاش تداعياتها بوجود معسكر لجيش الاستعمار البريطاني على أرض قريتنا الجميلة، قرية هربيا الواقعة جنوب مدينة المجدل/ عسقلان في أربعينيات القرن الماضي، التي يقام على أنقاضها منذ زمن النكبة مستعمرتي زكيم وكرميا، واصطدم مع جدي وأبناء قريتنا والقرى المجاورة مع المستعمرين البريطانيين قبل نكبة العام 1948، وتصلب عوده ووعيه في الكفاح الوطني حينما شاء ضابط إنكليزي ملاحقة جدي الحاج عاشور الغول أبو حلمي وقتله وعلى أرض بيارتنا، ولكن والدي وجدي تمكنا منه. 


وبعد النكبة تحمل والدي الشاب المسؤولية الأولى عن إعالة العائلة كلها الجد والجدة وزوجة الاب والأخوات والأخوة والأبناء عندما ساهم في بناء أوائل محلات تجارة الدقيق والاعلاف والبقوليات باصنافها والزيوت عام 1951 في سوق فراس، السوق المركزي في مدينة غزة، واحد اهم معالم المدينة، وواصل والدي الكفاح في تحمل أعباء الأسرة كلها، ثم التحق به عمي ربيع بعد أن ترك التدريس في محافظات الصعيد المصري، الذي رحل قبل عقد من الزمن. ولم يستسلم للشيخوخة، بل ثابر حتى انكسر زره قبل تقريبا 3 سنوات الى ان وفاه الاجل شهيدا مع شهداء حرب الإبادة. لانه قرر في آخر 4 أسابيع الامتناع عن اكل أي شيء، كونه شعر بثقل المسؤولية على شقيقي، ولادراكه أن هناك حرب تجويع وحصار إسرائيلية على أبناء الشعب في قطاع غزة، ولم يشرب إلا الماء، وفجر يوم الأربعاء الموافق 14 شباط / فبراير في الخامسة والنصف شهق شهقته الأخيرة. 


لم يعاني والدي من أي من الامراض المزمنة لا ضغط ولا سكري، ولكنه أصيب بالبروستاتا اسوة بالنسبة الكبرى من الرجال، لكنه حافظ على ذاكرته الحيوية، وعلى طيبته ونبل أخلاقه، وهذه كانت من سماته التاريخية على مدار ال94 عامًا التي عاشها بالطول والعرض، وكان فيها مثالاً للوفاء والعطاء والكرم ومحبة الآخر، وكان نموذجًا فريدًا في محبة الآخرين، وعدم إغضاب أحد، وكان مرضيًا من والديه واخواته واخوته وابنائه وأحفاده وأحفاد أحفاده، الذين تجاوزوا ال150 إنسانًا، وكان حبيب الأطفال والشباب والنساء والرجال والشيوخ، ورجل الاجماع دون منازع في العائلة الكبرى، وفي السوق المركزي، وفي أوساط كل من تعامل معهم من رفح إلى بيت حانون، وكان والدي عنوانًا ومثلاً يحتذى به في العطاء والوفاء ونبل الاخلاق. 
رحم الله والدي وكل الشهداء من أبناء شعبي العظيم وفي مقدمتهم الأطفال والنساء والشيوخ، والنصر لشعبنا العظيم إنشاء الله، رغم جرف الموت الأسود، وحرب الإبادة النازية الصهيو أميركية.