ما رأيته في طفولتي أثناء توافد اللاجئين في عام النكبة 1948، إلى مدينتي نابلس ومعاناتهم في مخيمات اللجوء، وثورة 23 يوليو من العام 1952 في مصر والحديث عن فساد السلاح والملك فاروق، والشعارات الرنانة التي كانت الأحزاب العربية والحركات الإسلامية تتغنى بها ولا تنفّذها ثم هزيمة حزيران في العام 1967 من جانب. وما كانت تطرحه حركة فتح من شعارات يتم تنفيذها على الأرض من جانب آخر، هو ما شجعني وكثير من شباب جيلي إلى الالتحاق بصفوف حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" وقواتها العاصفة.

"فتح" هي فكرة بسيطة وليست حزبا مغلقا، مفتوحة على كل التيارات والاتجاهات، المهم لديها هو التوجه نحو العدو المحتل لأرضنا وترحب بكل من يريد أن يكون هذا توجّهه. سواء كان الإنسان إسلاميًا أو قوميًا بعثيًا اشتراكيًا شيوعيًا، مسيحيًا أو مسلمًا أو حتى يهوديًا غير صهيوني، بشرط أن يتخلّى عن التنظير لمبادئه في صفوف الحركة ويتوجه فقط لتحرير الأرض المحتلة، وبعد التحرير الشعب يختار الحكم الذي يريد.
لذلك ترك كثير من الشباب الفلسطيني وحتى العربي الأحزاب التي كان ينتمي إليها والتحقوا في صفوف هذه الحركة التي تنفذ ما تقوله على الأرض.
وكان من شعاراتها "البنادق كل البنادق نحو العدو"، "ثورة حتى النصر"، "وحدة البنادق على أرض المعركة"، "النصر أو الشهادة"، "إن كان الله معي فمن عليّ"، "عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة".


وازداد زخم الالتحاق بفتح التي أطلقت الرصاصة الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة، عقب الانتصار العظيم الذي تحقق على أرض الكرامة في الأغوار والتحام الفدائيين وقوات الجيش العربي الأردني في معركة بطولية تمّ خلالها هزيمة "الجيش الذي لا يقهر" بقيادة جنراله الاحتلالي موشيه دايان.
قاومت "فتح" التشويه الذي لحقها في البداية من بعض القيادات والأحزاب العربية باتهامها بعملاء "حلف السنتو" أو إنها من جماعة الاخوان المسلمين إلى غير ذلك من اتهامات، وبقيت شامخة تعمل وتعمل وتثبت على الأرض ماهيتّها وفكرتها.


طال التشويه الكثير من قياداتها وكوادرها واستطاعت أن تتخطى بثبات وعنفوان، لدرجة أن هذا التشويه طالني شخصيا وأنا الكادر البسيط في هذه الحركة، فقد هوجمت من قبل حزب التحرير والإخوان المسلمين، بالرغم من معرفتهم بتديّني، وكتبوا عبر وسائل الاتصال:
من هو خالد مسمار؟ وأجابوا: هذا الأحمق عضو المجلس الثوري لحركة "فتح" ويتقاضى راتبًا منه، وهو عضو المجلس الوطني ويتقاضى راتبًا منه أيضًا، وهو لواء في السلطة الفلسطينية ويتقاضى راتب لواء؟!
كل ذلك بالتزامن مع اعتباري من قبل سلطات الاحتلال الاسرائيلي أنا والمرحوم عثمان أبو غربية بصفتنا في التوجيه السياسي وكذلك غيرنا من المسؤولين في فتح والسلطة بأننا "لا ساميون"!!

كانت قيادة "فتح" قيادة شابة فتية معظمهم في الثلاثين من العمر، ومع ذلك كان لقب القائد العام أبو عمار هو الختيار!
كان الختيار دائم التواصل معنا في الإذاعة وكأنها جزءٌ أصيلٌ من القيادة العامة لقوات العاصفة، كانت علاقته، رحمه الله، بكل فرد فينا علاقة الأخ الكبير مع أخيه الصغير ممزوجة مع علاقة الوالد بولده، لذلك كنا نطلق عليه أيضًا لقب (الوالد) إلى جانب الختيار. وأذكر يومًا أنه طلب مني الحضور أثناء زيارته إلى الأردن خلال الانتفاضة الأولى وكان يوجه رسالة شهرية بصوته إلى أهلنا في أرضنا المحتلة في قصر الضيافة في الأردن حيث كان المرحوم الكبير الملك حسين يستضيفه هناك لتسجيل كلمته وتشكيلها. أرسلت الإذاعة الأردنية يومها أحد مهندسيها مع جهاز التسجيل الشهير (الناغرا) وهو يعتبر استوديو متنقّل. وكان، رحمه الله، يستجيب لي عندما أوقفه عن التسجيل عندما يخطىء في التشكيل ليعيد التسجيل مرة أخرى، وسط اندهاش واستغراب المهندس الإذاعي الأردني، الذي كان مشدودا ومنضبطا أمام رئيس دولة شقيقة.


طلب مني الأخ أبو عمار أن اتصل بوزير الإعلام الأردني وكان يومها المرحوم محمود الشريف، وكانت له علاقة قديمة بالاخ أبو عمار كي يبث الخطاب المسجل عبر اثير الإذاعة الأردنية عندما يحين يوم ذكرى الانتفاضة كونها إذاعة مسموعة وقريبة على أرضنا المحتلة.
وبالفعل اتصلت بالسيد الوزير، عندما حان موعد ذكرى الانتفاضة المباركة، فكان جوابه جوابا دبلوماسيا طالبًا إبلاغ تحياته للأخ أبو عمار وأنه سيبث مقاطع مختارة من تسجيل الخطاب قائلاً أن الخطاب الكامل يكون عادة فقط (لسيد البلاد).
وفي موقف آخر من المواقف الحميمية الابوية من قبل رمزنا الراحل أبو عمار عند افتتاح جلسة المجلس الوطني الفلسطيني التي عقدت في الجزائر يوم إعلان وثيقة الاستقلال تمّ اختياري من قبل رئيس المجلس الشيخ عبد الحميد السائح لافتتاح الجلسة بالقرآن الكريم بصوتي الإذاعي، يومها تلعثمت قليلاً.


وعقب انتهاء الجلسة وخروجنا من قاعة الاجتماعات وإذا بي وجها لوجه أمام الأخ أبو عمار وبصحبته الأخ أبو إياد رحمهما الله فبادرني والابتسامة تملأ وجهه "أنا أغلط يا خالد بس انت ما تغلطش" بسبب لعثمتي تلك.
وهناك مواقف ولقطات أخرى تُظهر العلاقة الودية بين القائد الرئيس ومرؤوسيه سواء في بيروت أو تونس أو غزة أو رام الله.
كنت، وغيري من الكوادر والقيادات، نكتب ونتتقد من خلال الصحف الصادرة في فلسطين أو أثناء انعقاد جلساتنا التنظيمية كالمجلس الثوري لحركة فتح وكان رحمه الله يتقبل النقد بصدر رحب بل كان يترك لنا الهامش دون تدخل من قبله. كان يستحمل كلامنا الجارح في بعض الأحيان ولا يراجعنا وخاصة ما كنت أكتبه أنا شخصيا. إلا أنه في أحد الأيام طلبت منه أن يأذن لي بمنحة لأداء فريضة الحج بصحبة زوجتي كمحرم لها هنا شعرت بأنه كان يتابع ما أنشر فقال: (أيوه يا خويا عشان تكفّر عن ذنبك)، وكأنه يؤنبني على ما كنت أنشره، ولكن كان يصاحب كلامه ابتسامة عريضة.
أعتقد أن قيادات وكوادر الفصائل الأخرى المعارضة كان يعاملها بالمثل، كان ذلك يظهر من خلال علاقته، خاصة، بالحكيم جورج حبش قائد ومؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأصغر عنصر من عناصر التنظيم. حتى إن شاعرنا الراحل الكبير محمود درويش قال عند استشهاد أبو عمار: (في كل واحد منا شيء منه).

• شيء من النقد:

تعلمنا في "فتح" أن من مبادئها النقد خصوصا "النقد الذاتي"، وكان هذا المبدأ يمارس في البدايات سواء في التنظيم أو القواعد العسكرية، حيث استمر التعامل به إلى ما بعد الانتصار العظيم في معركة الكرامة الخالدة.
بعد ذلك بدأ التراجع عن ممارسة هذا الأسلوب تدريجيًا إلى أن أخذ البعض في التغاضي عنه، وأعتقد أن هذا خطأ فادح ارتكبناه.
لماذا؟!
وللإجابة أقول: مرّت بنا محن كثيرة ومعارك جانبية وحصارات واعتقالات ليس فقط من قبل العدو ولكن من قبل عدد من الأنظمة العربية.
فمثلاً بعد معارك أيلول السبعيني وخروجنا من أهم قواعدنا المواجهة للعدو المحتل لأرضنا ووطننا، وهنا أعني قواعدنا في الأردن وخاصة في الأغوار..لم ندرس التجربة المرّة.. ولم نناقشها على مختلف المستويات القيادية والتنظيمية والعسكرية ولم نحأول الاستفادة من دروسها، وانتقلنا إلى سوريا وجنوب لبنان وأعدنا ترتيب أوضاعنا هناك.. والتفّت الجماهير اللبنانية حولنا وقاتلت إلى جانبنا ضد المحتل الصهيوني ومن ثمّ ضد التدخل السوري بقيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد في منتصف السبعينات من القرن الماضي، وبعد حصار بيروت من قبل قوات المجرم أريل شارون في العام 1980 والدفاع البطولي عن عاصمة عربية لم يستطع شارون أن يتقدم منها شبرًا واحدًا إلا بعد خروجنا منها.


خرجنا من بيروت إلى المنافي، ولم نحاول مرة أخرى دراسة تلك الفترة وأخذ العبر لنعرف كيف نواجه القادم المجهول، ثم حصارنا في طرابلس لبنان والانشقاق الكبير في الحركة الذي قاده ضباط كنّا نحبهم ونقدرّهم وقاتلوا معنا في الدفاع عن الثورة في مراحل سابقة، ولكنهم أصبحوا وللأسف ألعوبة بيد من حركهم، ولم ندرس تلك المرحلة أيضًا!
وخضنا في وحل السياسة ابتداء من النقاط العشر في العام 1974م وانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في عمان منتصف الثمانينات والمثياق الوطني الفلسطيني وعبارة (كادوك) ثم مؤتمر مدريد بعد الانتفاضة المباركة في الوطن المحتل، وتبعها أوسلو والعودة إلى الوطن وقيادم السلطة الوطنية الفلسطينية.
ثم مقتل رابين على أيدي المحتلين أنفسهم، إلى أن جاء شارون الذي يمتلئ حقدا على ياسر عرفات الذي لم يستطع أن ينال منه في حصار بيروت فحاصره في المقاطعة في رام الله إلى أن استطاع الوصول اليه.. واستشهد رمزنا وقائدنا أبو عمار.
كل ذلك ولم ندرس ونتعمق في البحث وأخذ العبر منه.


إلى أن جاءت النكبة الكبرى الثانية التي حلت بالشعب الفلسطيني بعد نكبة 1948م، ألا وهي نكبة الانقلاب الدموي الذي قادته حماس على السلطة الوطنية الفلسطينية وفصل القطاع عن الضفة وهو الهدف الذي كان دائمًا يسعى اليه المحتل الصهيوني وخاصة الجنرال شارون بالذات.
لست بصدد سرد تفاصيل تلك الحقب الماضية، ولكن ما يؤلمني أننا لم نأخذ العبر ولم ندرس الأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه الآن.
صحيح أننا وصلنا إلى العالمية، وشعوب العالم كله تقف إلى جانب شعبنا وقضيته العادلة وأصبحنا عضوًا مراقبًا في الامم المتحدة وترأسنا مجموعة الـ 77 + الصين وقدنا أكثر من (130) دولة من خلال هذه المجموعة، ولكن لم نستطع حتى الان تحقيق شيء من حلم شعبنا وحلم رمزنا أبو عمار في القدس، لم نستطع توزيع المسؤوليات بالشكل الصحيح ونحن الذين ساعدنا على بناء وتعليم شعوب بأسرها!


هذا الجزء من النقد كان لا بدّ منه عسى أن نعود ونتدارس ما فاتنا وما تعرضنا له طيلة تلك السنين، منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة التي قادتها حركتنا الرائدة فتح وحتى إنشاء سلطتنا الوطنية الفلسطينية.
وهذا في تصوري سيقودنا إلى تحقيق هدفنا الذي انطلقنا من أجله في قيام دولتنا الفلسطينية المستقلة بعاصمتها القدس.