نشهد محاولة لنكبة ثانية هذه المرة موثقة على الشاشات، وجاءت التفاصيل بتاريخ ١٣ اكتوبر، أي بعد أسبوع من بدء الحرب، حيث تم تسريب خطة عسكرية استراتيجية فيها تفاصيل سيناريوهات ثلاثة للتعامل مع قطاع غزة؛ للتحضير لمرحلة ما بعد حماس! بالمقابل يعارض الأمريكان والقيادات الإقليمية أي خطة من شأنها تقليص مساحة الأراضي الفلسطينية ويرفضون لغوياً التهجير القسري!
تفاصيل ما رأيناه في قطاع غزة مدونة حرفياً في الوثيقة المسربة. أخصص مقال اليوم لتحليل ما جاء في الوثيقة, بدءًا بالخيارات السياسية المتعلقة بالسكان المدنيين في غزة.
(أ) الخيار أ: بقاء السكان الناجين في غزة واستقدام حكم السلطة الفلسطينية.
(ب) الخيار ب: بقاء السكان في غزة مع ظهور سلطة عربية محلية.
(ج) الخيار ج: إخلاء السكان المدنيين من غزة إلى سيناء.
من بين الخيارات الثلاثة, حاز الخيار ج على الأغلبية، فهو من وجهة نظر عسكرية الخيار الذي سيحقق نتائج استراتيجية إيجابية طويلة المدى لإسرائيل، وهو خيار قابل للتنفيذ. وهو يتطلب عزيمة من المستوى السياسي في مواجهة الضغوط الدولية، مع التركيز على حشد دعم الولايات المتحدة ودول إضافية مؤيدة لإسرائيل لهذا المسعى. الهدف هو إجلاء السكان المدنيين من غزة إلى الجنوب باتجاه سيناء, والتبرير ان "الحرب ضد حماس" وأنه ولحماية المدنيين هناك حاجة لإخلاء السكان من منطقة القتال! وهنا يتوجب على إسرائيل التحرك لإجلاء السكان المدنيين إلى الجنوب مما يشكل رسالة إنسانية حضارية سامية تطمع إسرائيل بإيصالها للعالم لتغطية جرائمها البشعة، وهذا ما نجحت به من خلال الاستعارة وتشبيه حماس بداعش والنازيين، مما عمل اوتوماتيكيا على ربط صورة "حماس" ب "الإرهاب" في عيون الغرب, بمساندة الاعلام الغربي, وتنشيط آلة الهاسبارا والبروباغاندا الإسرائيلية, نجح الاحتلال للخلط الخطير ما بين "الإرهاب" من جهة وحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه تحت الاحتلال غير القانوني طويل الأمد.
حسب الخطة العسكرية المسربة، في المرحلة الأولى، تتحدث عن إنشاء مدن الخيام في الجنوب، وتشمل المرحلة التالية إنشاء منطقة إنسانية لمساعدة السكان المدنيين في غزة وبناء مدن لإعادة التوطين في شمال سينا. وتتحدث عن إنشاء منطقة عازلة بطول عدة كيلومترات مع حدود مصر، وعدم السماح بعودة السكان إلى الأنشطة/المساكن القريبة من الحدود مع إسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، تتحدث عن إنشاء محيط أمني بالقرب من الحدود مع مصر.
انتهت المرحلة الأولى، حيث نفذت العمليات من الجو مع التركيز على شمال غزة تزامنت مع الدعوة إلى إخلاء السكان المدنيين للسماح باجتياح بري في منطقة تم إخلاؤها بالفعل ولا تتطلب القتال في منطقة مدنية مكتظة بالسكان.
الجيش الإسرائيلي يتحدث عن اقامة منطقة عازلة في قطاع غزة، ليس واضحا عمق المنطقة العازلة وقد تصل إلى عدة كيلو مترات داخل غزة, بعض التقارير ذكرت منطقة "المواصي" في الجنوب وهي منطقة زراعية على الساحل قريبة من الحدود الشرقية لا تتجازو ١٠- ١٥ كيلومترا غير مؤهلة للسكن الآدمي، بدون مستشفى ولا منازل ولا سوق، قابلة لان تكون مدينة (خيام). انتهت دولة الاحتلال من تنفيذ المرحلة الأولى من الخطة، وقد بدأت في المرحلة الثانية من عملية التهجير ما بين القسري تحت النار او الطوعي بعد التجويع والتضييق والتدمير. تدرك قيادات الجيش إنه وللوهلة الأولى، قد يشكل هذا الخيار، الذي ينطوي على نزوح أعداد كبيرة من السكان، تحديات فيما يتعلق بالشرعية الدولية وسمعة إسرائيل وكسب التعاطف العالمي. تعتبر الهجرة واسعة النطاق من مناطق الحرب (سوريا، أفغانستان، أوكرانيا) وحركة السكان نتيجة طبيعية ومطلوبة بسبب المخاطر المرتبطة بالبقاء في منطقة الحرب.
كما نعلم، حتى قبل الحرب، كان هناك طلب كبير على الهجرة من غزة بين السكان المحليين. ومن المتوقع أن تؤدي الحرب إلى زيادة هذه الظاهرة، دفع المدنيين باتجاه الجنوب ثم الحدود وهذا هو التهجير القسري أو في بعض الأحيان سياسة التجويع والخنق تدفع للتهجير الطوعي وهذا اكبر خطر امام القضية الفلسطينية.
من الناحية القانونية، تعمل دولة الاحتلال جاهدة لتصدير فكرة ان هذه حرب دفاعية ضد منظمة إرهابية قامت بغزو عسكري داخل إسرائيل في السابع من اكتوبر! متناسية 75عامًا من الاحتلال و15 عامًا من الحصار الخانق. حيث تدرك إسرائيل إن المطالبة بإجلاء السكان غير المقاتلين من المنطقة هو أسلوب مقبول وحضاري على نطاق واسع لإنقاذ الأرواح، وهو النهج الذي استخدمه الأميركيون في العراق عام 2003. وهنا تأمل دولة الاحتلال الضغط على جمهورية مصر العربية وتحميلها عاتق الالتزام بموجب القانون الدولي بالسماح بمرور السكان. وهنا تعمل إسرائيل على تعزيز مبادرة دبلوماسية واسعة النطاق تستهدف الدول التي ستدعم مساعدة السكان النازحين وتوافق على استيعابهم كلاجئين.
على المدى الطويل، تعتقد إسرائيل أنه هذا الخيار سيكتسب شرعية أوسع لأنه يشمل السكان الذين سيتم حمايتهم من خلال االتهجير. ستكون هناك حاجة إلى تغيير في المنظور الأيديولوجي للسكان من خلال زرع الكراهية ضد حماس بمحاولة حرف الأنظار عن الاحتلال كمسبب رئيس في الكوارث الإنسانية.
استراتيجيًا، تعتمد دولة الاحتلال على الردع – لخلق قوة ردع كبيرة في المنطقة وإرسال رسالة قوية إلى حزب الله مفادها أنه لا ينبغي له أن يحاول القيام بخطوة مماثلة في جنوب لبنان. كما تظن، الإطاحة بحماس ستحظى بدعم دول الخليج حسب الرأي الاستخباراتي الإسرائيلي، مما سيعزز السيطرة المصرية في شمال سيناء. ويجب الحرص على الحد من دخول الأسلحة إلى شمال سيناء وعدم إضفاء الشرعية على التغييرات في بند نزع السلاح في اتفاقية السلام. سيكون من الضروري الانخراط في جهد أوسع لنزع الشرعية عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم، وتحويل التنظيم إلى جماعة خارجة عن القانون تشبه "داعش" - من الناحية القانونية، في جميع أنحاء العالم وخاصة في مصر.
هذه ليست حرب بين إسرائيل وحماس، ما نشهده ليس لحظيًا ولا عشوائيًا، هذا جزء من المشروع الكولونيالي الاستيطاني الذي تنفذه دولة الاحتلال منذ عقود من خلال سلسلة من جرائم الحرب الموثقة ضد 2.3 مليون مدني فلسطيني، حيث تنفذ دولة الاحتلال جرائم ضد الإنسانية من عقاب جماعي وأوامر عسكرية للتهجير القسري بهدف إخلاء غزة من الفلسطينيين ونقل السكان قسراً إلى الجنوب ثم إلى سيناء قسرًا أو طوعيًا لتستكمل مخطط الضم ومصادرة الأرض ضمن مشروعها الاستيطاني.
ليست حرب بين إسرائيل وحماس! الضفة الغربية شهدت هجومًا من الشمال إلى الجنوب، كل المدن والمخيمات شهدت اعتداءات واجتياحات يومية، منذ بدء الحرب على غزة، قامت قوات الاحتلال بقتل أكثر من 240 فلسطينيًا في الضفة واعتقلت أكثر من 3200، الهجمات اليومية رافقها إرهاب المستوطنين المستشري المحمي من قوات جيش الاحتلال. كل ما هو فلسطيني مستهدف بغض النظر عن الأيديولوجية، الدين، اللون او مكان التواجد الجغرافي، من غزة للضفة والقدس الشرقية، كل فلسطيني هو هدف لآلة الحرب والإجرام الإسرائيلية.
تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة ضمن صفقة القرن التي تنفذ على الأرض بغطاء قانوني ومالي وعسكري أميركي وغربي، نشهد انعكاسًا عمليًا لتنفيذ حذافير وعد بلفور، يهدف الاحتلال من خلال عمليات التهجير القسري ومحاولات الإبادة لتحويل الشعب الفلسطيني لأقليات كما جاء في وعد بلفور للتمتع بالحقوق الدينية على أكثر تعبير، ما بين الجغرافيا والديموغرافيا، تترجم دولة الاحتلال مشروعها بحرمان الشعب الفلسطيني من حق تقرير المصير والقضاء على أي أمل لدولة أو استقلال فلسطيني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها