خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أمام الجمعية العامة جاء مكررا، يفتقر للذكاء، وفيه كم هائل من الكذب المكشوف، ما يؤكد أن الساحر قد فقد مهارته وسحره وجاذبيته الشعبوية، ولأنه يقود حكومة غير مرغوب فيها عالميا، ولأنه يواجه معارضة قوية ومتماسكة، فإنه كان يخاطب الجمههور الإسرائيلي محاولا إقناعهم أنه لا يزال مفيدا لإسرائيل ويحقق لها المعجزات. وفي قاعة فارغة من الجمهور باستثناء بضعة أشخاص من عصابة نتنياهو فإن المشهد كان سرياليا لأن القليل من المتبقين في القاعة من الوفود لم يتفاعلوا أبدا مع بهلوانيات الساحر الذي فقد موهبته الوحيدة وهي إتقان لغة الجسد والكذب، فما شهدناه وسمعناه هو دليل الانحطاط، وأن إسرائيل ذاتها بدأت تفقد بريقها.
بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، واصل نتنياهو سرقة التاريخ الفلسطيني وحاول احتكار 3 آلاف سنة من تاريخ فلسطين لنفسه، مصورا وكأن اليهود كانوا هناك طوال الوقت يتحكمون بإيقاعات الزمن الفلسطيني من خطبة سيدنا موسى عليه السلام في سيناء، بالرغم من أن المؤرخين أنفسهم كذبوا الادعاء بأن اليهود قد تاهوا 40 سنة في صحراء سيناء أو حتى أنهم كانوا هناك في أي يوم من الأيام.
كما واصل نتنياهو اللعب على مسألة معاداة السامية وإلصاق تهمة الإرهاب بالضحية. أما أكثر بضاعة فاسدة حاول نتنياهو تسويقها وهي أن السلام ممكن مع العرب من دون الحاجة لإيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولو كان في القاعة بشر لكنا سمعنا ضحكاتهم، ولكن ما أسعف نتنياهو أن القاعة كانت خالية.
وبما يتعلق بالتطبيع، وهو الموضوع الذي يعتبره نتنياهو إنجازا شخصيا له، أو المساحة التي يناور ويخدع جمهوره والعالم بها، فلم يظهر عليه أنه واثق تماما من النتائج، فقط كما هي عادته، بدأ بالتلويح بخريطة قد لا يتحقق ما فيها بعد عقود وربما لا يتحقق. المهم لنتنياهو هو البقاء في السلطة أطول مدة ممكنة هربا من المحاكمة على قضايا فساده. ولكن حتى بقاؤه لم يعد مضمونا، فهو يواجه تهديدين، الأول إمكانية انفراط ائتلافه بسبب "التنازلات" التي قد يقدمها في الملف الفلسطيني للسعودية، والسبب الثاني تعاظم المعارضة الداخلية لقانون إصلاح القضاء، وهي المعارضة التي بدأت تلاحقه بشدة في زياراته الخارحية، كما حصل في الولايات المتحدة.
لقد انعكست الأزمة الداخلية العميقة في إسرائيل بشكل واضح على خطاب نتنياهو، فمشكلته الأساسية أن معظم الجمهور الإسرائيلي لم يعد يصدقه بل ويتهمه بأنه كاذب. وباستثناء النواة الصلبة في الليكود والتي ما زالت مسحورة برئيسها، فإن الغالبية العظمى من الإسرائيليين لا يرغبون حتى برؤيته، فمشكلة نتتياهو هي في السؤال: لمن يبيع كلامه؟ ربما اعتقد أنه يمكن أن يبيعه للعرب، خصوصا عندما تحدث عن الذكاء الاصطناعي، وكأنه يقول لهم نحن من نستطيع أخذكم نحو المستقبل، مرة أخرى أخفق نتنياهو لأن لا أحد من العرب يصدق لأن إسرائيل ستأخذهم لخراب أكثر لأنها شريكة أساسية في إبقاء الأمة العربية متخلفة ممزقة تعيش خلف الزمن.
بقي هناك شيء خطير ورد في خطاب نتنياهو وعلينا نحن الفلسطينيين الحذر منه، فالرجل تحدث بطريق لا تقبل الشك أنه يفكر بعملية تطهير عرقي للشعب الفلسطيني، وذلك عندما قال: إن الفلسطينيين لا يمثلون سوى 2% من العرب، ما يوحي أنه لا يزال يفكر بأنه يمكن استيعابهم في باقي الدول العربية، وهذه مقولة طالما رددتها الحركة الصهيونية. ونتنياهو هنا لا يريد تطبيعا مع الدول العربية مقابل "تنازلات" يقدمها في الملف الفلسطيني، وإنما يقول للعرب: طبعوا وخذوا الفلسطينيين عندكم، ولكن نتنياهو أخفق مرة أخرى لأن الشعب الفلسطيني لن يقبل بوطن غير وطنه فلسطين وهذا ما أثبتته تجربة الصراع الطويلة.
خطاب نتنياهو يؤكد أنه بات من الصعب على إسرائيل إعادة إنتاج روايتها. فقد أصبحت في نظر العالم أنها دولة أبارتهايد، دولة احتلال وتتجه لأن تصبح غير ديمقراطية، بل ودولة فاشية، وهل هناك انحطاط أكثر من ذلك؟ هذا باختصار المأزق الذي بدا على نتتياهو أنه غارق فيه.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها