ما يبهج القلب ويفرحه، أن الذاكرة الفلسطينية تتوقد وتتوهج أكثر، كلما مرت عليها، وبها، الأيام، فهي الخزين الوطني الذي لا ينضب، والكتاب الثقيل الوافي القار في كل بيت، والمعنى الذي يجول مثل سؤال لغوب كيما يصل إلى الطمأنينة المشتهاة، ولا طمأنينة ضافية صافية محلومة إلا بعودة البلاد الفلسطينية إلى أهلها، والحواكير إلى بيوتها، والمفاتيح إلى أبوابها، والحقول إلى مواسمها، والينابيع إلى صباياها، والدروب إلى أنسها، والقرى إلى صباحتها البكر، والشرفات إلى روائح قهوتها وموسيقاها، والقلوب إلى دقاتها الملأى بالفرح والغبطة.

أقول هذا، وأنا في دهشة أو أكاد، بعد قراءتي لرواية الأديب الفلسطيني وليد عبد الرحيم الصادرة حديثًا عن دار دلمون الجديدة في دمشق تحت عنوان (زريف الطول)، لأنها رواية يتعانق فيها البطل الشعبي، والمكان المأنوس، مثلما يتعانق التاريخ ومعاني الوفاء لتصير حكايات تجري بها الألسن، وتسمر بها الليالي، ويتعالى بها نشيد الناس، والأمكنة، والأزمنة في هتاف يهز الوجدان: بلادي، بلادي!

ببراعة مدهشة حقًا، يبتكر وليد عبد الرحيم رواية مستلة من أسطورة بطل شعبي اسمه (زريف الطول) أسطورة وطدها وحفظها الغناء الشعبي في الأفراح والأتراح معًا، حتى قرت في التقاليد الفلسطينية التي من فطرتها عشق الأرض، والجمال، والخير، والمعاني المفضيات إلى تدوين الحياة الفلسطينية التي زهت بالعمران، والكتب، والقراءات التامة!

قرن كامل من الشدة، عرفتها البلاد الفلسطينية، هو القرن العشرين! قرن كامل طفح بظلموت لم تعرفه الأرض والتواريخ والبشر من قبل، قرن اكتوت به القرى والمدن الفلسطينية التي عرفت المجازر والمذابح والسجون والمعتقلات والمطاردة لكل شيء، للأطفال، والدروب، والبيوت، والأفكار، والحقول، ودور العبادة، وهدأة الناس، والعافية، والنشور، والفرح، والضحك، مطاردة للحق، بطيوفه كلها. قرن من الشدة استوجب ميلاد البطل الشعبي (زريف الطول)  مثلما استولدت الشدة الأبطال الشعبيين الذين عرفتهم البشرية، من عنترة بن شداد إلى روبن هود!

مكنة سردية بهارة، وجولان تاريخي حاشد بالأخبار والصور والوثائق، وروح وطنية محلقة في فضاء من سرد شفيف خفيف طيع مثل الغيوم، يجوز بها وليد عبد الرحيم متقفيًا خطًا (زريف الطول) وأحلامه الباحثة عن الفرح المسروق من قبل الانكليز قبل عام 1948، ومن قبل المستوطنين الإسرائيليين الذين أرادوا وقف حياة الفلسطينيين وشلها وتعليقها على حبال أعدت كمشانق يومية طالت جميع الأرجاء والأنحاء، وبالقوة الباطشة الراعية؟ (زريف الطول) صورة للفدائي الجسور الذي آخى حياة الخشونة من أجل استعادة الكرامة، وصورة المزارع الثابت في حقله من أجل المواسم الواعدة، وصورة المعلم في مدرسته من أجلأحلام جديدة، وصورة العاشق الذي يذهب إلى موعده في المساء من دون أن يتفقد عقله ان كان معه، وصورة، أشجار الزيتون وقد عادت إلى طمأنينتها، فلا خوف من اقتلاع أو تحطيب!

وليد عبد الرحيم الذي درس الإخراج السينمائي في القاهرة، يكتب تاريخ البلاد الفلسطينية عبر مشاهد تقطرها ذاكرة وقادة مشعة لا سهو فيها ولا لجلجة؛ مشاهد تقص، وتخبر، وتصوغ، وتصور، وتستبطن ما في التواريخ كي تصير مرجعية العقل الفلسطيني، ووليد عبد الرحيم الذي أصدر دواوين شعر عدة، يكتب بحبره المضيء، ولغته المكثفة، وجملته الرهيفة المعاني التي جسدها الفلسطيني صبرًا على الأذى، وعشقًا للبلاد! وما أكثر صور الصبر، وما أكثر صور العشق.

وليد عبد الرحيم، يحاول في روايته (زريف الطول) التي تري القارئ الباد الفلسطينية، وهي في صورتين، صورة الجمالين السماوي والأرضي الذي عاشته رغدًا قبل الاحتلالين الإنكليزي والإسرائيلي، وصورة ظلموت الاحتلالين وقباحاتهما الولود في كل لحظة وآن، حتى صار هذا الظلموت فضاءات للشدة والعذاب والكراهية والعنصرية وانتفاء الحرية والجمال والحق والخير، وأقول أيضًا: وليد عبد الرحيم يفتح بوابات التراسل الإبداعي ما بين أجناس الأدب والفنون الإنسانية عامة، ففي مشاهد الرواية، يقع القارئ على مساحات من شعر كتبته روح ملتاعة، ويقع على رسوم ومنحوتات وتشكيلات للألم والعذاب بادية حين يتفقد الفلسطيني روحه وهي تزفر زفرتها الأخيرة، ويقع القارئ على مسرح يتقابل فيه إثنان جندي مدجج بالسلاح والإخافة، وامرأة تلبس ثوبًا أسود زينته الألوان، ولا حوار بينهما سوى حوار الرصاص، ولا صورة سوى صورة الجندي الذي يستدير بأسلحته مثل وحش الغابة، وصورة المرأة التي تنظر إليه بعينين أصبحتا، بعد الموت، نافذتين وأكثر.

رواية (زريف الطول) لـ وليد عبد الرحيم، كتابة جديدة لسرد جديد، وثاب، كثيف، يفرض على القارئ أن يركض وراء الأسطر ليعب من جماليات الأدب، وليتجرع غصص التاريخ الفلسطيني مثل عداء ليس في باله سوى خط النهاية، كي يرفع ذراعيه عاليًا.. معلنا الانتصار.