جميل ضبابات

ظهر الصباح واضحا في هذا الشارع، فقد انقشع الى حد كبير الغبار الذي أحدثه القصف الإسرائيلي.

كان كل شيء هادئا، فالحشود التي كانت بالأمس تلاشت نسبيا، وعندما أشرقت الشمس اليوم، كان هناك رجل يجلس على كرسي بطاقة قليلة -يحدق بجدران سوداء- وركام مكدس ممزوج ببقايا رائحة احتراق مركزة لمواد بلاستيكية وأقمشة.

انه مخيم جنين بعد انتهت أحدث جولة من الاشتباكات والحصار واستخدام المروحيات والطائرات المسيّرة الانتحارية الاسرائيلية.

صبيحة اليوم الثاني، بعد انتهاء العملية العسكرية الإسرائيلية، مشى الناس عبر شارع السكة، وحتى اللحظة ما زال الذين تركوا منازلهم في الليلة الثانية من المعركة يعودون إليها، غير أن جمال لحلوح الذي وصل مبكرا لتفقد منزله الذي تركته العائلة كان يجلس لا ينبس بكلمة.

في هذا الشارع من المخيم، بدا الدمار لا يختلف عن أي منطقة أخرى في المخيم، لكنه أكثر وضوحا، فبعض الواجهات هدمت جزئيا وبعضها احدثت فيه فتحات استخدمها القناصة، ولا زال دمار السيارات التي عجنتها الجرافات العسكرية مكانها.

كان لحلوح يتلقى التهنئة بالسلامة من المارة والجيران، مع نظرة البعض الى الجهة المقابلة لمكان جلوس لحلوح، والتعبير المزدوج عن الصدمة والبطولة.

ان لحلوح ليس آخر رجل يمكن أن يروي قصة خسرانه لمنزله في المخيم، لكنه واحد من عدة عاشوا حياة الفنانين المعروفين في شمال الضفة الغربية انطلاقا من مخيم جنين الذي خلفت فيه العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة دمارا، هو الأشد منذ عقدين.

لقد كان هجوما مدمرا على المخيم، خسر فيه الرجل عوده الذي يرافقه منذ سنوات.

بعد ان تعلم مهنة الحدادة في سنين مراهقته الاولى، سعى جمال لحلوح الى تلبية نداء حبه الداخلي للفن، فاقتنى عودا، وبدأ رحلة البحث عن الفرق الفنية المعروفة شمال الضفة الغربية، وكان ذلك نقطة تحول في حياة هذا الرجل.

بدأ يضرب لحلوح، وهو الآن في منتصف العقد الخامس من عمره على أوتار العود، وانتقل خلال ثلاثة عقود من فرقة الى فرقة.

لقد زار كل الأرض الفلسطينية من عكا شمالا حتى غزة جنوبا، لإحياء حفلات الزفاف بصحبة فنانين وزجالين ينخرطون في اعمال فنية تشتهر بها جنين وقراها، وأصبحت حياته تاريخا طويلا من العزف في الفرق الفنية التي تحيي حفلات الزفاف.

يقول انه، زار فيها أيضا، دولا عربية لإحياء حفلات الزفاف، وطالما صادفته قصص بعضها يرويها أصدقاؤه عن خفة دمه، وجعل الحياة أكثر سهولة امام كل من يعرفه.

لقد كان على استعداد دائم لإضحاك أصدقائه ومعارفه، كما وصفه أصدقاؤه.

هذا اليوم 6/7 لم أقابل رجلا أكثر حزنا من لحلوح. يجلس في ظل منزل محترق، دون أن ينبس بكلمة أمام هول ما جرى.

في شمال الضفة الغربية يسكن في مخيم جنين وهو آخر المخيمات الفلسطينية شمال الضفة الغربية نحو 15 ألف فلسطيني، تمتد حكايتهم إلى عام 1948، عندما طردت عائلاتهم من قراها في الأراضي التي أصبحت لاحقا إسرائيل، والتي أرسلت نحو 1000 جندي وطائرات ومدرعات مصفحة للهجوم على المخيم.

مساء تلك الليلة التي سبقت الهجوم على المخيم، تناولت عائلة لحلوح العشاء، وانتهت من انجاز التحضيرات للعرس المرتقب نهاية الأسبوع، يوم الجمعة. توقعت العائلة زفافا جميلا محمود أصغر أبناء جمال، كانت ستجرى مراسمه في قاعة من قاعات مخيم جنين الذي تراقبه الطائرات من الاعلى.

على مدار أشهر طويلة، وصلت التجهيزات المنزلية للعروسين المقبلين على الحياة؛ مقاعد وأجهزة كهربائية، وطليت الجدران.

كل شيء كان يسير حسب الخطة التي تريدها العائلة.

لكن همسا وافصاحا كان يدور في أوساط الفلسطينيين في المخيم، وفي كل منطقة جنين ايضا ان الطائرة في الأعلى والتي يميز صوتها سكان المخيم بشكل واضح، تعمل على رصد الحركة في شوارع المخيم، ومنها شارع السكة الذي تسكن فيه عائلة لحلوح، وايضا في الأزقة الداخلية توطئة لهجوم مرتقب.

ان هذا الشارع التاريخي في المخيم الذي التقط اسمه من مكان مرور سكة الحديد العثمانية التي سار عليها القطار قبل إنشاء المخيم بعقود، هو أكثر الشوارع زحمة.

"كان القصف مروعا. لم ندرك ما حصل، لكن صاروخين نفذا الى داخل المنزل". كانت المعركة في ذروتها؛ إطلاق النار واصوات الانفجارات تسمع في كل أنحاء جنين، وعلى بعد كيلومترات عديدة سمع سكان القرى والبلدات دوي الانفجارات وشوهدت الطائرات التي تصدر صوتا مميزا في سماء مناطق شمال الضفة الغربية.

مثل بعض العائلات نجحت عائلة لحلوح بالانسحاب من المنزل فور قصفه."لم نر وميض الانفجارات لكن الصوت كان قويا". قال لحلوح.

هناك باب خلفي للمنزل تمكن أفراد العائلة من الهروب من خلاله.

في المحيط يروي الجيران كيف أطلقت الطائرة الصاروخين على المنزل واخترقت النافذتين العليا والسفلى.

وتساءل أحدهم وهو يرشد سائق جرافة كانت تسوي الطرق المهدمة ويشير في الوقت نفسه الى الدمار، فيما إذا كان هناك هجوم اسرائيلي قريب!

تقول روايات اخرى، ان القوات الاسرائيلية أرسلت طائرات انتحارية مسيرة الى منازل المخيم لتنفجر مجرد وصولها للهدف، وعرض بعضهم اسلاكا نحاسية طويلة قالوا إنها كانت جزءا من تلك الطائرات التي وجهت ونفذت عبر النوافذ، ودمرت المنازل.

بطريقة ما غادرت عائلة لحلوح المخيم، وعائلات اخرى ايضا لجأت الى المستشفيات، والى اقارب في قرى قريبة، وهو مشهد نقل على الهواء مباشرة ذكرهم بما جرى لأجدادهم، عندما طردوا من قراهم الاصلية عام 1948.

مع الغضب المكبوت، تراوح القصة التي يرويها لحلوح في مكان واحد من حياته، حول البيت الذي بناه طوبة فوق طوبة ليضم عائلته وابناءه، آخرهم محمود الذي كان زفافه مقررا في 7-7-2023.

"اختفى كل شيء تماما". وكان يشير الى ركام اسود في غرفة جانبية هو مقاعد كان سيجلس عليها المهنئون بالزواج، ايضا الى اجهزة كهربائية كانت ستحفظ الطعام والماء البارد.

والعود الذي سيعزف موسيقى الزفاف أيضا أصبح ركاما اسود.

كانت مشاهد تفقد آثار الدمار الأكثر شيوعا في شوارع المخيم، وفي الصور التي بثت في كل أنحاء العام، انطلاقا من ساحة المخيم، وهو المكان الذي تمركزت فيه المصفحات الاسرائيلية ظهر سكان المخيم يحاولون ازاحة ركام الشوارع المدمرة للدخول الى منازلهم، الا ان لحلوح لم يكن قادرا على رفع أي من الدمار الذي لحق بمنزله.

" لم يتبق شيء. احرقوا كل شيء". قال.

احضر بعض الجيران مطارق حديدية كبيرة لتسوية بعض الكتل الاسمنتية، وقطع الاسفلت الكبيرة التي تجمعت أمام منازلهم بعد تجريفها، وعملت الجرافات على تسوية أولية للحفر التي أحدثتها الجرافات الاسرائيلية أمام منزل لحلوح.

يقول سكان المخيم، إن اسرائيل لم تهدف من العملية إلا إحداث الدمار. كانت المركبات التي جرفتها الجرافات امامها، ودمرت هياكلها، تشير الى أقسى مظاهر أحدث حرب شنت على المخيم.

اعتاد سكان مخيم جنين وهو من المخيمات القليلة التي بني جزء منها في منطقة سهلية هي امتداد طبيعي لمدينة جنين الواقعة عند أطراف مرج بن عامر، وجزء آخر على سفح جبل على العمليات العسكرية الإسرائيلية، إلا أن العام الأخير شهد عمليات متعددة راح ضحيتها الكثير من الشبان.

يروى جيران لحلوح كيف قتل جيش الاحتلال خلال أشهر عددا من شبان المخيم.

على بعد أقل من 200 متر من منزل لحلوح قتلوا أيضا معلم المدرسة جواد بواقنة امام منزله، لمجرد انه حاول انقاذ حياة أحد المصابين.

في الصباح كانت عائلة بواقنة تقف مشدوهة امام الدمار الذي حل بالطريق امام منزلها. وكانت ايضا توزع الماء والقهوة على العائدين الى منازلهم.

إن مستوى الحنق والغضب هنا مرتفع بشكل واضح، فالجيل الجديد الذي لم يجرب حرب عام 2002 يرى أن إسرائيل خرجت مهزومة من المخيم، لذلك ستعود للدمار مرة اخرى.

كانت المعركة بدأت بقذائف أطلقت على المخيم، وحشد مئات الجنود في المحيط وأغلقت منافذ المخيم وأصبح من الصعب على الجميع الخروج من منازلهم.

يسكن لحلوح هو وزوجته وابناؤه وهم جميعا عشرة أفراد في المنطقة التي كانت دائما مركزا للعمليات الإسرائيلية فمنزله المطل مباشرة على الشارع جعل من العائلة شاهدة على كل ما يجري خلال العمليات العسكرية السابقة بما فيها العملية الكبيرة عام 2002.

قصف المنزل عند الساعة الثانية فجرا في اليوم الأول من الاجتياح خلال المرحلة الأولى من الهجوم، ولحسن حظهم كانوا جميعا في اقصى غرفة من الجهة الثانية للمكان الذي انفجرت فيه الصواريخ.

"عندما ارتطم الصاروخ بالمنزل، كان مثل الزلزال". هكذا وصف الجيران الاهتزازات التي احدثها القصف.

في اليوم الرابع منذ ذلك الفجر، عندما عاد لحلوح الى المنزل لم يجد شيئا على حاله، فقد كل الامكنة التي اعتاد عليها منذ بنى المنزل في عام 1985 ركاما اسود.

وأول ما يمكن ملاحظته هو الرائحة الناتجة عن عملية الاحتراق.

ومع ذلك حاول لحلوح رفع بعض اخشاب المقاعد المحترقة وتفقُد محل صغير في الطابق السفلي من المنزل كان يديره لتصليح اجهزة التلفزيون.

هذه عائلة عاملة، تعمل بجد لكسب رزقها، فبالإضافة الى كون لحلوح عازف عود فهو ايضا مصلح اجهزة كهربائية، وسائق مركبة نقل، فيما زوجته تدير صالونا لتزيين النساء.

ظهر الصالون الذي حطمت الانفجارات جزءا من اليافطة التي تشير إلى بابه وكأنه لم يكن يوما صالونا للتزيين.

تظهر واجهة المنزل قد تعرضت الى مستويات مختلفة من القصف، فهناك آثار ثقوب أحدثها الرصاص تعود الى عام 2002، عندما اجتاحت القوات الاسرائيلية المخيم وهدمت منازل كثيرة وقتلت العشرات.

في ذلك العام، كان محمود ما زال في سنته الأولى من عمره، وخرج جميع أفراد العائلة من المنزل، لكن عندما عادوا وجدوا المنزل وقد اخترقت جدرانه الرصاص دون أن يحترق.

إن حزن لحلوح هو الاكثر وضوحا في هذا الشارع، ولم يكن الرجل يريد الابتعاد عنه في ساعات النهار.

في وقت لاحق من ذلك النهار كان موظفو المنظمات الدولية الصحية والاغاثية يصلون في مجموعات لمعاينة الأضرار.

يمر الجيران تباعا على لحلوح، وهو يذرع احيانا المسافة بين منزله والطرف الآخر من الشارع يهنئونه بالسلامة، ويشدون من عزيمته، ويقدمون القهوة والماء للمارة.

آخرون من خارج المخيم يبدون صدمتهم ويلتقطون الصور للشارع الذي دمرت الجرافات الجزء الأكبر منه.

يقول الرجل بلهجة هي مزيج من القهر وعدم اليقين بما يحمله المستقبل، انه لم يتخيل يوما ما حدث.

كانت جنين خبرا كبيرا في العالم الاسبوع الماضي، لكن بالنسبة للحلوح فإن اتمام زفاف محمود كان أكثر الاخبار فرحا في حياته.

يعقب يوسف ابو فرحة وهو من قرية الجلمة الذي عمل لسنوات مع لحلوح "أنا اعرف انكسار جمال(..) عندما وصلت الى هنا ورأيت المنزل لم أستطع النظر بعينيه".

"عندما شاهدت ابنه يحمل العود المحترق عرفت بالضبط ماذا حصل لجمال".

تحدث جمال ويوسف بشكل سريع عن ماضيهما الجميل، واشارا الى تلك الايام قبل 17 عاما عندما كانا يحييان الحفلات سويا. لقد مرت اسابيع قليلة منذ التقى الصديقان في المنزل ذاته، كان فيها لحلوح يجري تجهيزات حفل الزفاف.

قال ابو فرحة: "جئت الى هنا لتفقد المخيم. لم أكن اعرف ان منزل جمال قصف واحترق".

قال جمال: "العود يعز علي (..) كان مصدرا للرزق والفرح. كان جزءا من العائلة، لو كنت اعرف انهم سيقصفون منزلنا كنت أخرجته".

في واحدة من ميزات المنطقة الشمالية من فلسطين، فإن انتشار الزجالين يعبر عن قرب المنطقة من الجليل حيث ينتشر الزجالون بطريقة أدائهم المميزة.

تعرف جنين وبلداتها بانها الاكثر شهرة بالزجل والغناء الشعبي في الضفة الغربية، وهناك أسماء لمعت مثل موسى الحافظ في هذا الفن، بالنسبة لمخيم جنين فهناك إشارات واضحة لتمتع رجالها بممارسة الدبكة بشكل احترافي أثناء حفلات الزفاف.

عند التفكير بالحاضر القاسي يصعب على لحلوح نسيان الماضي، فقد عزف الرجل على عودة آلاف المرات ونشر الفرح في حفلات الزفاف التي كان يشارك في احيائها مع الفرق الفنية.

"عزفت في 200 حفلة في عام واحد. كان الناس يحبون عزفي وكنت أعمل ليل نهار".

عندما اقترب الرجل من المنزل المحترق قال "العود في الاعلى". كان وضع العود قبل ثلاثة أسابيع في الغرفة العلوية لكنه كان في نفس الوقت يهيئه للعزف عليه في زفاف محمود.

لحسن الحظ ان لديه عودا ثانيا اعاره لصديقه، لكن لا أحد يعرف متى ستشفى جروح المخيم لإحياء الزفاف المؤجل.

بحلول ظهيرة اليوم، كان العشرات من المارة والقادمين من خارج جنين قد زاروا منزل لحلوح المحترق، إلا أن الرجل اكتفى في الاشارة إلى ما حدث دون الخوض بالتفاصيل.

كان فقط يعتذر لعدم استطاعته تقديم الضيافة، إذ لم يتبق شيء بعد حريق المنزل.

وعندما سئل عن العود اعطى اجابة مقتضبة: "عندما يأتي ابني يحضر ما تبقى منه".