يامن نوباني

75 عاماً مرت على مذبحة الطنطورة، وما زال غروب الشمس على شاطئها الساحر، رملها وصخورها، جزر البحر قبالتها، مراكب الصيادين الخشبية، بقايا الأشجار وحجارة البناء، والهواء الذي يدور، فلسطين.

تحت الأرض، حيث دُفن في الـ23 أيار 1948، أكثر من 230 شهيداً في مقابر جماعية، ما زالت جثثهم متمسكة بالجذور، ولو على هيئة قبور.

75 عاما لم تغادر خلالها الطنطورة المشهد، في المخيلة الفردية والجماعية، فهي في الأبناء الموزعين في سوريا ولبنان والشتات الذي وصل إليه أبناؤها، حكاية تُروى وشهود. وفي الأدب والرواية والسياسة فلسطينيا وعربيا.

ليلة الـ22 أيار، ونهار الـ23 أيار 1948، احتلت عصابات "الهاغاناة" الإرهابية الصهيونية "الطنطورة"، وأجبرت العشرات من أهلها على حفر خنادق، قبل أن تطلق النيران عليهم، وتدفنهم في تلك الخنادق، وفي مقابر جماعية.

قبل ذلك التاريخ، اشتُهرت الطنطورة بمحطة سكة القطار الساحلية، واشتُهر أهاليها بصيد السمك، وما تبقى منها اليوم، مقام المجيرمي، وبيت "آل اليحيى"، ومدرسة بُنيت أوائل الأربعينيات، حيث قامت الكتيبة الـ33 من لواء الكسندروني بإقامة نصب تذكاري فوق رابية المدرسة المستخدمة اليوم كمحطة لأبحاث الصيد التابعة لوزارة زراعة الاحتلال.

تميز موقع الطنطورة باعتباره ممرا إلى حيفا، وبعض المراكز الأخرى، كون جزء من أراضيها يصلها بالطريق الساحلي السريع، ووجود محطة قطار للخط الساحلي، وأقيم على أرضها كيبوتس "نحشوليم" عام 1948، ومستوطنة "موشاف دور" عام 1949، وجُرفت المقبرة الجماعية، وبُنيت فوقها مواقف للسيارات.

يحد الطنطورة من الغرب البحر المتوسط، ومن الشرق بلدة الفريديس، ومن الجنوب قرية كبارة المهجرة، وعرب الغوارنة - جسر الزرقاء، ومن الشمال قرية عين غزال المهجرة وقرية كفر لام الساحلية المهجرة.

تبلغ مساحة أراضي الطنطورة 14520 دونما، وقُدّر عدد سكانها سنة 1929 حوالي 750 نسمة، وفي عام 1945 حوالي 1490 نسمة، قبل أن تهدم المنظمات الصهيونية المسلحة القرية وتشرّد أهلها البالغ عددهم عام 1948 حوالي 1728 نسمة.

الطنطورة.. تفاصيل من حياة مهجرة

يسرد كتاب "الطنطورة" تفاصيل دقيقة عن الطنطورة وأهلها وحياتهم قبل التهجير، مهتما بأعمالهم وأسمائهم، وحِرَفهم، فيروي أن أصحاب قوارب الصيد في الطنطورة كانوا: داوود السمرة، ومحمد علي الشيخ حسن، وكامل المصري، وآل الدسوقي.. التحق العديد من أهالي الطنطورة في سوريا بالعمل السياسي، وبالنضال الفلسطيني منذ البدايات، وأصبحوا ضباطا وأعضاءً في المجلس الوطني الفلسطيني، وكان من أبرزهم في تلك المراحل: محمد عبد العال، وداوود أبو شكر، وحلمي الهندي، وحسين العشماوي، وعبد الرزاق اليحيى، وطلال الدسوقي، وسليم العشماوي، ومازن العشماوي، وفهمي البدوي، وإبراهيم الزراع، وفهمي الهندي، وجودت الهندي.

كان ميناء الطنطورة نشطا في مجال تصدير الحبوب والمنتجات الزراعية خاصة البطيخ، وكان بطيخها مشهورا ويسمى "السهيلة"، ويصدر إلى لبنان ومصر ودول مختلفة. وكان الأهالي ينصبون العُرُش على الشاطئ في أيام الصيف ويستخدمونها كمقاهٍ واستراحات، وكانت تصنع من نبات الحلفا العريض الذي كان ينبت على جداول المياه في القرية، كنبع الدلفة وتفرعاته، وكان آل اليتيم هم المختصين في حصر الحلفا وحصر السمار، وهو نبات تخرج منه عيدان خضراء رفيعة وطرية، تجفف في الشمس وتجدل لتصبح حصيرة.

لم تكن الأعمال الصناعية منتشرة في القرية ما عدا صناعة الحصر والأواني القشية والخشبية اللازمة لنقل المنتجات الزراعية، وصناعة الأحذية، وكان آل العيق هم المختصين في صناعتها، إضافة إلى صناعتهم عدة الحراثين.

بائعون متجولون في الطنطورة

كان في الطنطورة عدد من الباعة المتجولين الذين يبيعون السمك والخضراوات والبيض والحمام على دواب يطوفون بها في القرى المجاورة، منهم: مصطفى البيروني، ومحمد أبو الحسن، وسعيد سلام، والعبد أبو صلاح، وذيب الخطيب.

وعُرفت الطنطورة بقلة أشجارها، نظرا لاتجاه الأهالي إلى زراعة الحبوب المختلفة، لكنها كانت تزرع وبشكل محدود: التين والصبر والرمان والبلح والتوت والليمون. في بدايات الأربعينيات، تم وضع ماتور وتمديد أنابيب لضخ المياه من بئر الشفا الذي كانت النساء تنقل المياه منه على رؤوسهن، إلى بيوت الطنطورة.

كانت الطنطورة تطحن قمحها على بابور لآل اليحيى، ثم انتقلوا إلى بابورين لعقاب اليحيى ولأحمد اليحيى حتى النكبة.

ويختم الكتاب بأن تربية الدجاج في الطنطورة كانت من لوازم بيوت الطنطورة الرئيسية، لتأمين البيض واللحم للعائلة، ولم يكن ذبح المواشي منتظما في القرية إلى أن امتهنه موسى العموري. كانت الأكلة المشهورة للطنطورة هي المحمر (المسخن) وطبق السمك المقلي الذي لا غنى عنه لكل ضيف.

بيت آل اليحيى، الوحيد المتبقي منذ هُجرت وهُدمت الطنطورة، يبحر بزائرها، إلى زمن الصيادين وشباكهم، إلى مناداة الناس على بضاعتهم وأسماكهم وبطيخهم ومحاصيلهم الزراعية، إلى صوت القطار المار بمحاذاتها، إلى مياه البحر وأمواجه التي كانت تعلو لترطم بجدران المنازل القريبة، وفي الشتاء، تفيض أحيانا لتمشي بين البيوت.. إلى يهودي أُطلق عليه لقب "موسى الطنطوري" بنى بيتاً على أطرافها، واستصلح أرضاً لزراعتها، محاولاً جذب المزيد من اليهود إليها قبل النكبة، وإقامة علاقات "ودية" مع أهلها، فلم يلتفت إليه أحد، ووجد نفسه وحيداً في قرية عربية فلسطينية بأكملها، ما دفعه إلى مغادرتها، وترك ما بناه وزرعه.

المصدر: وكالة أنباء وفا