بعد عام من استسلام "كتيبة آزف النازية في ماريوبول" تمكنت القوات الروسية بالتعاون مع قوات فاغنر من السيطرة الكاملة على مدينة باخموت يوم السبت الموافق 20 أيار / مايو الحالي، وبعد معركة دامية استمرت على مدار الشهور السبعة الماضية، وتم رفع العلم الروسي على القلعة الأوكرانية المنيعة، لتأكيد السيطرة الكاملة على المدينة الاستراتيجية في المعادلة العسكرية الأوكرانية الروسية، الأمر الذي حسم الجدل بشأن هزيمة القوات الأوكرانية في القلعة التي راهن زيلنسكي واقرانه وحلفائه لأن تشكل رافعة لهجومه المضاد على القوات الروسية. وبالتالي تحطم الحلم الوهمي، وانعكس سلبًا على مجرى الصراع. لا سيما وأن باخموت شكلت حجر الرحى في المعارك الدائرة طيلة الشهور الماضية، وتعتبر منعطفًا نوعيًا في الصراع. رغم محاولات بعض الخبراء الغربيين تهميش أو استصغار شأن الانتصار الروسي، وتبهيت ما تحمله المعركة من أهمية استراتيجية بالمعنى التكتيكي على نتائج مجرى الحرب الدائرة في مقاطعة دونتسيك.

لكن المؤكد، أن المعركة التي استمرت على مدار 224 يوما طوال لها ما بعدها من آثار وتداعيات على سيرورة المعارك، ولن تقف عند حدود السيطرة الكاملة على المدينة، إنما ستفنح الباب أمام تقدم على الأرض باتجاه استكمال السيطرة على مدن المقاطعة، كونها تقع على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مدينتي سلوفيانسك وكراماتورسك، اللتان تعتبران من أكبر مدن إقليم دونباس، وتفتح بوابة التوجه نحو مدينة خاركيف. أضف إلى أن مقاطعة دونتسيك تشكل مع لوغانسك المجاورة إقليم دونباس. وأن لم تتوقف نيران الحرب الدائرة عند حدود الاقليم، فمن المحتمل أن تمتد للعاصمة كييف التي تبعد حوالي 580 كليومتر. 

كما وتكمن أهمية السيطرة على باخموت في العديد من النقاط المؤثرة في مجرى العملية العسكرية وارتدادتها السياسيو والاقتصادية المالية، منها أولاً تعزيز الروح المعنوية في أوساط القوات الروسية بالإضافة لقوات فاغنر المساندة لها، والعكس صحيح، حيث ستضعف الروح المعنوية في أوساط القوات الأوكرانية وقوات حلفائها من الأميركيين ودول الغرب الأوروبي وإسرائيل؛ ثانيًا انعكاس الهزيمة على ما أعلنته الحكومة الأوكرانية عن "هجوم الربيع" ضد القوات الروسية، الذي أعتقد أنه ضرب في المهد؛ ثالثًا تعاظم وارتفاع فاتورة الخسائر في الأرواح والمعدات والبنى التحتية، وانعكاس ذلك على الروح المعنوية في أوساط الشعب الأوكراني عمومًا؛ رابعًا حسب تقدير بعض الخبراء العسكريين فإن الهزيمة في باخموت، سيدفع القوات الأوكرانية للانسحاب إلى خطوط دفاع داخل الأراضي الأوكرانية مثل كراماتورسك، التي تم تحصينها خلال العقد الماضي استباقًا للحرب، التي أعدوا لها سابقًا؛ خامسًا أعتقد أن الهزيمة سيكون لها انعكاسات على مصداقية ومكانة القيادتين السياسية والعسكرية الأوكرانية، وقد تحمل في طياتها مضاعفة الصراع بين التيارات المختلفة داخل النخب القيادية الأوكرانية؛ سادسًا ارتداد الهزيمة الأوكرانية في "القلعة المنيعة" على الحلفاء الغربيين جميعًا، الذين راهنوا مع القيادة الأوكرانية على أن تشكل باخموت نقطة تحول للهجوم المضاد على القوات الروسية، لكن رياح التوقعات والتمنيات الغربية ذهبت هباءً؛ سابعًا رغم ارتفاع صوت دول الغرب في العداء لروسيا، ومواصلة الدعم والتمويل لآلة الحرب الأوكرانية، والإعلان عن مساعدات مالية جديدة تقدر ب3 مليارات دولار أميركي حصل عليها زيلنسكي من جولاته الأخيرة في بلدان أوروبا الغربية (المانيا وفرنسا وإيطاليا واسبانيا وغيرها)، إلا أنها وفق تقارير لأجهزة الأمن الأميركية والغربية عمومًا، بدأت تشعر بالانهاك المالي والاقتصادي والعسكري قبل أن تصلها نيران الحرب، وهو ما يشي أن طول أمد المعارك سيضاعف من تداعياتها على واقع الأنظمة الحاكمة بما فيها طبعًا الولايات المتحدة، التي تشهد إفلاسًا متتابعًا ومتتاليًا في بنوكها، التي زاد عددها عن 130 بنكًا.  

انتصار القوات الروسية في باخموت بعد عملية الاستنزاف الطويلة خلال الشهور السبعة الماضية، كان أكثر من ضروري للقيادة السياسية والعسكرية وللشعب الروسي عمومًا، وسيكون لها دور مؤثر على إضعاف وإخفات الأصوات المعارضة للحرب في أوكرانيا. كما أن المعارك الطاحنة في باخموت ساهمت في إعادة تأهيل القوات الروسية، وعلمتها دروس هامة في فنون القتال، لم تشهدها ولم تتعلمها المدرسة العسكرية الروسية في الحرب العالمية الثانية، ولم تواجهها في حربها ضد طالبان في أفغانستان، وبالتالي أضافت خبرات نوعية لقواتها، وهذا سيساعدها في معاركها اللاحقة، التي يفترض أن تكون اكثر ديناميكية وحيوية في حسمها.

بالنتيجة لم تكن الهزيمة في باخموت شكلية، رغم أنها معركة تكتيكية بامتياز، لكنها بقدر ما هي تكتيكية، بقدر ما لها دلالات استراتيجية على مستقبل الصراع المحتدم على الأرض وانعكاساته الإقليمية والدولية. لأن الهزيمة لها ما بعدها.