ثمة سؤال قد يبدو بديهيًا: لماذا نحيي ذكرى النكبة؟ فالأسئلة في العادة تمنح المرء قدرة اكبر على التركيز وتنظيم الأفكار، وربما تمنح قدرة أكبر على وضع الخطة المناسبة، والإجابة عن سؤال لماذا، تجعل الاجابة عن سؤال كيف نحيي ذكرى النكبة، ضمن سياق سنوي متجدد وإبداعي بعيدًا عن أي تكرار ممل.

في البداية من المهم أن ندرك ونحلل ما الذي تعنيه النكبة، وما الذي حصل للشعب الفلسطيني بالضبط في حرب 1948 وتم تلخيصه بهذا المصطلح "النكبة" للتعبير عن هول ما حدث.

وبالمقارنة مع القنابل النووية الأميركية التي ضربت هيروشيما وناكازاكي في اليابان، وهو واحد من أبشع فصول الحرب العالمية الثانية وأكثرهم تدميرًا ووحشية ولا يمكن التقليل من هوله وفداحته، فإن ما جرى لفلسطين والشعب الفلسطيني هو أكثر بشاعة، لأنه في نهاية الأمر بقيت اليابان وبقي الشعب الياباني وإعيد بناء المدينتين المنكوبتين، أما فلسطين فقد كانت الغاية الاستعمارية أن يتم شطبها عن الخريطة كليًا، وإلغاء وجود الشعب الفلسطيني كشعب وتحويله إلى لاجئين محرومين من حق العودة إلى وطنهم ومن أي حق لهم بأرضهم التاريخية.

أما عن حجم الخسائر، فلا يمكن قياسها ببعدها المادي فقط، ويمكن اختصار ما جرى بانه  تدمير شامل للمجتمع الفلسطيني بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والوجدانية والنفسية، لقد جرى تدمير الحياة الطبيعية للشعب الفلسطيني بكل أشكالها وتفاصيلها، وحرم من التمتع بالاستمرارية في مكانه وفي بيئته الخاصة، التي هي ملكه ومن حقه، وتوارث فيها ونمّى ذاكرته الجماعية وتراثه الشعبي الخاص به، وشرد في أصقاع الأرض وتمت تجزئته وطمس هويته الوطنية. النكبة تعني الدمار الشامل والفقدان وخسارة الذات الوطنية.

لعل واحداً من أخطر نتائج النكبة، ويلخص معناها الأكثر ظلمًا، هو فصل الفلسطيني عن التاريخ والجغرافيا الخاصة به، الإقليم الذي راكم فيه تاريخه وشكل فيه ذاكرته الجماعية، ما جرى هو محاولة لتدمير هذه الذاكرة وعلاقتها بالمكان ووجود المكن في الزمان، في التاريخ. وقد يكون التعبير الأكثر دقة عن المقصود مما سبق ما كتبه الشاعر الفلسطيني الأهم محمود درويش في إعلان الاستقلال عام 1988، وما قاله فيه: "على أرض الرسالات السماوية الى البشر، على أرض فلسطين ولد الشعب العربي الفلسطيني نما وتطور وأبدع وجوده الإنساني عبر علاقة عضوية لا انفصام فيها ولا انقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخ، وبالثبات الملحمي في الزمان والمكان صاغ الشعب الفلسطيني هويته الوطنية"، هذه العلاقة، هي المستهدفة بالنكبة، وما فيها من دمار وخراب وتطهير عرقي وتشرد وطمس للوطن والهوية.

والآن، كيف يمكن إحياء ذكرى النكبة بطريقة متجددة وإبداعية تعزز الهوية والذاكرة الجماعية، وتعمق العلاقة التي يجب ألا تنفصم مع المكان؟

- إلى جانب القرار بتأسيس نصب ومتحف النكبة في مدينة رام الله- البيرة، والذي يجب أن نتأنى في كيفية تصميمه وأن يتم تحت إشراف لجنة تضم مهندسين وأكاديميين ومؤرخين وخبراء وسياسيين وحتى فنانين تشكيليين وكل خبير قد يكون مفيدًا سواء فلسطينيًا أو عربيًا أو أجنبيًا صديقًا، وقد يكون جزء من المتحف متغيراً وقابلاً لاستخدام متجدد بشكل ابداعي كل عام. إلى جانب ذلك يمكن أن تكون هناك جوائز قيمة مالية، لأفضل ثلاثة أبحاث أو دراسات، ولأفضل نصوص أدبية،  قصة قصيرة، رواية قصيدة نص مسرحي، لعمل فني؛ رسم موسيقى فيلم وثائقي أو درامي، يكون موضوعها النكبة أو ما يتعلق بها، وأفضل لوحة للرقص الشعبي الفلسطيني والتعبيري.. إلخ.

- أن يكون هناك وأينما أمكن في العواصم العربية والدولية متحف للنكبة. ولربط الشعب بالمكان يمكن تصميم قصص للأطفال، وألعاب الكترونية، ونشر خارطة لفلسطين صماء على موقع الكتروني خاص بالنكبة تقوم كل عائلة وبمشاركة كافة أجيالها بوضع اسم مدينتهم أو بلدتهم أو قريتهم، تنظيم مسابقات معرفية في المدارس والجامعات تنال الطالبة أو الطالب وحتى المدرسين على جوائز بنفس النسق سابق الذكر، نصوص أعمال فنية، دراسة أو بحث.

- تأسيس مؤسسة وطنية تتولى عملية تنظيم رحلات عائلية ومدرسية وجامعية ومؤسسات عامة وخاصة وزوار لمواقع القرى والبلدات الفلسطينية المدمرة مع إدلاء وخبراء لرواية قصة كل قرية. ويمكن وضع نصب في كل مدينة وفي مخيمات اللجوء يروي عملية التطهير العرقي مع ذكر كل القرى الفلسطينية المدمرة.

لعل الفكرة الأهم أن النكبة حدث لم يحصل في لحظة تاريخية بالماضي وانتهى، وربما نحتاج إلى عمل متواصل في الاعلام لربط الحاضر بالنكبة باشكال استمرارها المختلفة، كما أن النكبة ليست ذكرى نحييها في يوم او يومين ونمضي، إنها عمل متواصل، وهكذا فقط بنسج ذاكرة وطنية جماعية متينة قادرة على توحيد الشعب الفلسطيني وتعزيز هويته الوطنية، من هنا ولكي يكون العمل منظما ومتواصلاً، فلا بد من تخصيص بند في الموازنة العامة يخص النكبة، وصندوق وطني يساهم في القطاع الخاص وحتى المواطنين بقدر الاستطاعة، فالمسألة في نهاية المطاف ليست احياء ذكرى بقدر ما هي إبقاء الذكرى حية وتحويلها إلى ذاكرة جماعية.