يشهد النظام الدولي تطورات سريعة وهائلة قد تغير نمط القطبية فيه، وليس بالمقدور التنبؤ بمسارات هذا التحول، فالحرب الروسية الأوكرانية لم تتوقف، ولا يتوقع أن تتوقف خلال الأمد القصير. وأوروبا تعيش حالة صعبة من الانقسامات وسوء الأوضاع الاقتصادية خاصة بعد أزمة الطاقة. وأزمة تايوان ما زالت تشكل تهديدا وتنذر بمزيد من الصراع بين الولايات المتحدة والصين. وكوريا الشمالية لم تثنها خطوات التهدئة التي اتخذتها إدارة ترامب السابقة، عن استمرار التهديد في المحيط الهادئ وخاصة تجاه اليابان. وفي ظل هذه الصراعات، تظل الحقيقة الواضحة والمهمة وهي أن العالم يشهد تحولات حثيثة لصعود قوى كبرى على قمة القطبية في العالم.
الملفت للنظر، أن مكانة الولايات المتحدة الأميركية تزعزت في أماكن نفوذها التقليدي، وبدأت تقاوم هذا النفوذ قوى منافسة كبرى وإقليمية؛ ومنها ما هو حليف طبيعي للولايات المتحدة نفسها. ففي منطقة القرم، لم يستطع الروس أن يحققوا الحسم، ولكن الولايات المتحدة وحلفاءها من الأوكران والأوروبيين لم يستطيعوا أيضا إنهاء الحرب. وفي الواقع، فإن مجرد إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية يشير بوضوح الى أن قوة الردع للقوة الأولى في العالم وهي الولايات المتحدة، لم تكن كافية لردع الروس على ضم شبه جزيرة القرم وخوض الحرب لاحتلال أوكرانيا.
بالمقابل، فإن حلفاء الولايات المتحدة التقليديين في أوروبا وعلى رأسهم فرنسا، أصبحوا منزعجين بشكل علني من الهيمنة الاميركية التي لم تستطع أن تحمي أوروبا من الخطر الروسي ولا من أزمة الطاقة والبطالة فيها. فالرئيس الفرنسي ماكرون نفسه أثار ضجة كبيرة عندما أجرى مقابلة مع صحيفة "ليزيكو" الاقتصادية الفرنسية، حيث قال إن "أسوأ شيء هو الاعتقاد أننا نحن الأوروبيين يجب أن نكون أتباعا" حول مسألة تايوان و"أن نتكيّف مع الإيقاع الأميركي ورد الفعل الصيني المبالغ فيه. ووفقا لافتتاحية صحيفة لوفيغارو الفرنسية فإن عصر الهيمنة الأميركية على العالم انتهى وتراجع استخدام العالم للدولار، وواشنطن دفعت العالم لذلك من خلال استخدام عملتها كأداة للضغط السياسي على الآخرين.
بالنسبة للتنافس الصيني الأميركي، فقد انتقل الى مرحلة قريبة من الصراع لا سيما عندما يتعلق الأمر بموضوع تايوان. وازداد التقارب الروسي الصيني نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الولايات المتحدة التي تفرض عقوبات اقتصادية مستمرة على الصين. بالمقابل، فان الصين يتوسع نفوذها في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا دون قدرة حقيقية للولايات المتحدة أن توقف هذا التوسع. وكانت آخر ضربة تلقتها الولايات المتحدة من الصين عندما نجحت الأخيرة بالوساطة بين ايران والعربية السعودية، وهو الأمر الذي يعتبر من أصعب الملفات في المنطقة العربية التي كانت تعتبر منطقة نفوذ طبيعية للولايات المتحدة. وفي النتيجة، لقد تجرأت الصين وروسيا ولعبتا دورا محوريا في الشرق الأوسط وأوروبا، ولم تعد الولايات المتحدة اللاعب الأوحد في هاتين المنطقتين الاستراتيجتين. هذه التحولات بدأت تشعر حلفاء الولايات المتحدة نفسها بالقلق، فاليابان زادت من قدراتها العسكرية مؤخراً بشكل لافت حتى تقلل اعتمادها على الحماية العسكرية الأميركية. وإسرائيل وسعت من علاقاتها الاقتصادية مع الصين وروسيا، ليس هذا فحسب، بل إن الولايات المتحدة لم تستطع حتى الآن أن تغير من سياسات الحكومة الإسرائيلية الفاشية تجاه الإصلاح القضائي أو التسوية في المنطقة. في الواقع، يبدو أن السياسة العالمية لم تعد تصنع فقط في الولايات المتحدة، فهنالك شركاء ومنافسون أقوياء لديهم ما يقولونه في هذه السياسة، وربما في كثير من الحالات فقدت الولايات المتحدة وعملتها بريق القوة المهيمنة في العالم.
المصدر:الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها