إذا كانت العلاقات بين فلسطين وبلجيكا تشهد نقلة نوعية في عدد من الجوانب الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية فهذا بفضل مجموعة من العوامل منها الجهد المتواصل الذي يبذله أصدقاء فلسطين في بلجيكا ومنذ عقود ومنهم سيرج هوستاش المواطن البلجيكي والفلسطيني أيضًا، حيث أن سيادة الرئيس محمود عباس منحه، في فبراير 2015، المواطنة الفخرية الفلسطينية ومنح أيضًا قامة أخرى في التضامن مع فلسطين وهي النائبة السابقة في البرلمان الأوروبي فيرونيك دوكايزر، بناء على ترشيح من سفيرة فلسطين حينها  ليلى شهيد، وذلك تقديرًا لعملهم المهم الداعم لفلسطين على المستويين البلجيكي والأوروبي.


سيرج هوستاش الذي ينتمي للحزب الاشتراكي البلجيكي، هو رئيس مجلس محافظة هينو والواقعة غرب بلجيكا وهي واحدة من عشر محافظات تشكل مملكة بلجيكا، وهذه المحافظة التي تضم 69 مجلسًا بلديًا ترتبط بتوأمة مع محافظة بيت لحم منذ 15 عامًا.


امتلك سيرج وهو الناشط السياسي أن كان على المستوى الحزبي أو الأهلي نظرة مختلفة نوعًا ما في تضامنه مع فلسطين التي زارها للمرة الأولى في نهاية الثمانينيات ضمن وفد من حركة التضامن البلجيكية التي تذهب بشكل اعتيادي وتقوم بنشاط تقليدي لدعم الشعب الفلسطيني يقوم بزيارة فلسطين والالتقاء مع القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ونقل معاناة الفلسطينيين ونضالهم لدى عودتهم إلى بلجيكا، مع تقديم الدعم المادي الممكن.


لقد كان سيرج شاهدًا على ما حدث أمام حاجز عسكري نصبه جنود الاحتلال في بيت جالا، حين أقدم أحد الجنود على إهانة رجل فلسطيني كبير بالسن ويرتدي حطة وضربه بشكل مبرح وكل ذلك أمام طفله الذي لم يتجاوز حينها السبع سنوات وكان ينظر لوالده بألم وحسرة. أثر هذا المشهد كثيرا في سيرج وبقي محفورًا حتى يومنا هذا وهو يمثل له "كذب العالم وتسامحه مع الاحتلال" كما يقول، وقد غير هذا المشهد لدى سيرج الكثير من نظرته الذي يشرح "شاهدت الاحتلال بمعناه الحقيقي على أرض الواقع من قمع وإهانة وهو واقع يومي يعيشه الناس منذ أن يولدوا حتى يموتوا وعندما تذهب إلى فلسطين فالصورة تختلف تمامًا وتعود مقتنعًا بحق الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته".
 
كان لنشأة سيرج في بيت كانت فيه الام تنتمي للحزب الاشتراكي وكان الأب مواظبًا على أداء شعائره الدينية في الكنسية، دورًا في تنمية رغبة سيرج الاقتراب من الإنسان في سعيه المستمر بتحسين واقعه ورفع كل أشكال الظلم الذي يعترضه، فذهب أولاً إلى دراسة القانون ليكون مدخلاً لمساعدة الإنسان ثم انشغل في محاولة فهم أسباب الصراعات فتحول إلى  دراسة التاريخ واصبح أستاذًا للتاريخ عندما انتسب للحزب الاشتراكي وتدرج في مواقع الحزب من مسؤول الاعلام في منظمة "التضامن الاشتراكي" التابعة للحزب والعاملة في النطاق الشبابي، إلى أمين عام مؤسسة ثقافية تتبع الحزب واسمها "حضور وعمل ثقافي" ومن ثم مرشحًا لحزبه ليصبح نائب رئيس بلدية إيزيل.


تجربة العمل في هيئات المجتمع المدني التي خاضها سيرج أعطته نظرة مميزة للعمل السياسي بأن السياسية الحقيقية هي ما تقرره المنظمات القاعدية في المجتمع من هيئات مدنية ونقابات وأندية أكثر من الصراعات بين يمين ويسار وهذه النظرة سترافقه في مسار عمله أن كان في بلجيكا أو فلسطين أو بلدان أخرى أهتم بها.

يقول سيرج في معرض مراجعته لتطور التعاطي مع القضية الفلسطينية في بلجيكا، أن الحديث عن فلسطين في مطلع ثمانينيات القرن الماضي لم يكن بالأمر الهين حتى داخل الحزب الاشتراكي، المعروف اليوم بانفتاحه بشكل إيجابي على نضال الشعب الفلسطيني، ففي تلك الفترة كانت فلسطين حبيسة  منظارين، الأول هو  "الهولوكوست" الذي تعرض له اليهود في أوروبا، حيث أن إسرائيل ضمن هذا المنظور السائد آنذاك انها ليست فقط تمثل الضحية ولكنها أيضا دولة وحيدة وليدة تواجه محيطاً عربياً معاديًا أكبر منها بكثير، بشكل يشبه أسطورة "دافيد وغوليات" التي كانت ترددها الدعاية الصهيونية لسنوات طويلة والمنظور الثاني هو الحركات اليسارية الراديكالية التي تعاملت مع فلسطين في إطار مواجهة المعسكر الإمبريالي الذي يشمل جبهات متعددة في أفريقيا وآسيا بما فيها فلسطين، وقد ظلت هذه الثنائية تحكم التعامل مع القضية الفلسطينية حتى توقيع إتفاقيات أوسلو عام 1993، حين ظهر للرأي العام البلجيكي والأوروبي وجود مجتمع فلسطيني بكل ما يعني ذلك من الكلمة وأن الفلسطيني ليس فقط مقاتلاً أو مناضلاً بل هو شعب كامل بكل مكوناته المدنية.


في حديثه عن تلك الفترة يتوقف سيرج بتأثر عن الدور الذي لعبه شوفي أرملي، ثاني سفير لفلسطين في بلجيكا بعد نعيم خضر الذي استشهد أمام منزله في حزيران 1981 في بروكسيل، بإخراج النظرة لفلسطين في بلجيكا من صورتين نمطيتين أما "الإرهابي" أو الفدائي" إلى صورة الإنسان الذي يسعى بلا شك لتحرير وطنه ولكنه يبحث عن الحياة الكريمة ويتسلح بالعلم والثقافة لبناء مجتمع متطور يقوم على الحرية وحقوق الإنسان والانفتاح على الآخر ويقول سيرج "صحيح لم يكن شوقي يمتلك ملكة الاعلام كما هو الحال مثلاً مع نعيم خضر، لكنه استطاع التأثير بكل من قابله بهدوئه وبساطاته وحجته القانونية القوية واستطاع اختراق شرائح مهمة من الأحزاب السياسية والنقابات والبلديات، بما فيها تلك القريبة من الرواية الإسرائيلية، بعمله الهادئ والمستمر في كل مكان.


عديدة هي المجالات التي إختار سيرج أن يتعامل من خلاها مع فلسطين ويقدمها للرأي العام البلجيكي وكلها تنطلق من وجود مجتمع فلسطيني يناضل من أجل حريته وبناء نموذج راقي في كافة المجالات من تعليم وصحة.. ويرغب بقيام علاقات شراكة مع مجتمعات العالم من خلال الثقافة والتعليم، فسعى إلى توأمة مدن فلسطينية مع بلجيكية فكان له الفضل الأول في عقد اتفاقية تعاون بين محافظة هينو، واحدة من عشرة محافظات بلجيكا، مع محافظة بيت لحم منذ 15 عامًا، لحقتها توأمة بين بلدية تورنيه وبيت لحم التي احتفت قبل قرابة عام بمرور 10 أعوام باحتفال مهيب بحضور نائب رئيس بلدية بيت لحم نادر رحيل الذي كان مناسبة لاستعراض مجالات التعاون بين البلديتين وكان لسيرج نصيب الأسد في إنجازها، منها علاقة تعاون بين المدرسة العليا للتمريض في تورنيه وجمعية بيت لحم العربية، حيث يذكر المدير التنفيذي للجمعية دكتور أدمون شحادة أن الجمعية استقبلت على مدار 10 سنوات أكثر من 700 متدرب ومتدربة من المدرسة العليا للتمريض في تورنيه الذين أمضوا فترة تدريب في الجمعية ببيت لحم واستفادوا من التجربة العلمية الفلسطينية وعادوا كسفراء لفلسطين في مدينتهم تورنيه.


في الثقافة لعب سيرج دورًا مهما في انجاز تجربة فريدة بين مركز الكمنجاتي في رام الله بقيادة الفنان رمزي أبو رضوان، وأوركسترا مدينة تورنيه بقيادة الفنان ايليو بودمونت، التي نتج عنها عمل فني مشترك بلجيكي فلسطيني باللغتين الفرنسية والعربية تم إطلاق عليه اسم "المنارة"، حيث يتم إنشاد أشعار محمود درويش، وقد تم تقديم هذا العمل في عشرات المدن البلجيكية والأوربية وبعض المدن العربية، بما في ذلك بيت لحم.


ودائمًا في نفس الميدان هناك أيضًا تجربة انشاء مدرسة السيرك في فلسطين التي جمعت بين فنانة بلجيكية حيسكا ديفينس، أتت للإقامة والعمل في فلسطين وارتبطت بزواج مع الممثل والمخرج الفلسطيني شادي زمرد، الذي راوده منذ صغره تأسيس مدرسة سيرك فلسطين تستطيع أن تستوعب فئات عديدة من الشباب الفلسطيني من الجنسين ومن كافة الفئات العمرية ومن مختلف المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وقد شكل الاثنان نواة للمدرسة التي لاقت دعمًا من بلجيكا وتحديدًا من مؤسسة "حضور وعمل ثقافي".


وسيرج هوستاش هو أيضًا باحث وكاتب وله عشرات الكتب في قضايا متنوعة منها فلسطين من زاوية الاستشراق والتراث وكان من كتبه "بيت لحم بين الأسطورة والخيال" الذي انجزه مع المصورة البلجيكية فيرونيك فيرشوفال وقد قدمه قي سفارة فلسطين في بروكسيل بدعوة من السفير عبدالرحيم الفرا وفي هذا الكتاب يقدم وصفًا لعلاقة الرحالة الاوروبيين إلى فلسطين وخاصة مدينة بيت لحم في القرنين الثامن والتاسع عشر مع صور للحياة اليومية في الزمن الحالي.


وسبق هذا الكتاب، منجز آخر بعنوان "على خطا بير لوتي، رحلة قديس ملحد إلى الأرض المقدسة" كما يتابع الكاتب عن قرب موضوع "الصهيونية المسيحية" ويلقي محاضرات بشأنها.
أما السينما فهي أيضًا شغفه المستمر، فيحرص كل عام أن تكون لفلسطين حصة في مهرجانات السينما التي يدعمها مثل مهرجان "الفيلم المزعج" الذي عرض فيلم "11 يوم في مايو" للمخرج الفلسطيني القادم من غزة محمد الصواف الذي تناول العدوان الإسرائيلي على غزة في 2021 أو في مهرجان "مونس الدولي لأفلام الحب" الذي عرض قبل أيام فيلم "علم" للمخرج الفلسطيني فراس خوري المتعلق بنمو الوعي الوطني الفلسطيني للشعب الفلسطيني في مناطق فلسطين 48.


وأخيرًا ستكون فلسطين حاضرة في مهرجان يربط بين الموسيقى ومختلف العلوم الإنسانية واسمه "غير المنتظرين"، في نهاية شهر أغسطس القادم في مدينة تورنيه، في عرض موسيقي يقدمه فتيات وفتيان من مدرسة الكمنجاتي في رام الله، الجزء الأكبر يسافر أول مرة خارج فلسطين.

المصدر: الحياة الجديدة