فلسطينيا وفي الوطن, في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة, وداخل الخط الأخضر أي داخل إسرائيل في الجليل والمثلث والنقب وما تبقى من وجود فلسطيني في حيفا وعكا ويافا واللد والرملة وفي السهل الساحلي الجنوبي في مدينة المجدل, كما في الشتات القريب والبعيد, نحن نعيش هذه الأيام ذكرى قرار التقسيم الذي صدر عن الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947, ونص في جوهره على إصدار شهادتي ميلاد لدولتين , دولة فلسطين ودولة اسرائيل, ولكن زخم المشروع الاستعماري المتحالف في ذلك الوقت مع المشروع الصهيوني , أصدر شهادة ميلاد واحدة لدولة إسرائيل, ومزق شهادة الميلاد الثانية الخاصة بالدولة الفلسطينية , وهذا هو جوهر معنى النكبة الفلسطينية .
ولكن ورغم مرور العقود , فإن هذا القرار الدولي لم تمت فعالياته نهائيا , بسبب استمرار الوجود البطولي الخارق للفلسطينيين كشعب , شعب صاحب حق وقضية وقدرة تشبه الأساطير في استمرار إحياء هذا الحق وهذه القضية .
حين تقدمت إسرائيل في عام 1948 للحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة التي تتمتع بها منذ ذلك الوقت حتى الآن , فإن الأمم المتحدة منحت إسرائيل هذه العضوية من خلال إلزامها بشروط وآليات محددة .
أول هذه الشروط والآليات : أن تقوم إسرائيل بتحديد حدودها على ضوء قرار التقسيم وتتقدم بوثيقة تبين هذه الحدود بدقة للأمم المتحدة , وأشكر أخي وصديقي العزيز المناضل الفتحاوي البارز أحمد غنيم الذي أهدى المكتبة الفلسطينية والعربية قبل أكثر من سبع سنوات كتابا بالغ الأهمية والدقة حول حدود دولة إسرائيل التي قبلت على أساسها عضوا في الأمم المتحدة , والتي تختلف كثيرا عن حدود الهدنة التي ظلت قائمة حتى العام 67 , واستند أخي وصديقي أحمد غنيم في هذا الكتاب على وثائق قانونية وخرائط جغرافية دقيقة جدا تبعا لمعايير المراجع الدولية , مفندا بذلك بشكل واضح لا يقبل الجدل الافتراءات التي روجها الإسرائيليون ووقع في حفرتها الرأي العام العربي بعيون جاحظة وبأن إسرائيل عبقرية, وبارعة, ولم تحدد حدودا لدولتها على الإطلاق .
وثاني هذه الشروط والآليات : أن الأمم المتحدة ربطت شرعية قيام دولة إسرائيل وعضويتها في الأمم المتحدة بضرورة إقرار إسرائيل بدولة فلسطين وضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين هجروا من مدنهم وقراهم ومضارب خيامهم سواء في حدود دولة فلسطين أو حدود دولة إسرائيل كما حددها قرار التقسيم!
وهذا الكلام مفيد بشكل أساسي في مواجهة المنطق المزايد والأبله أحيانا الذي يثرثر بأن قيام دولة فلسطين في حدود الرابع من حزيران عام 67 ينهي قضية اللاجئين, فمن خلال الحقائق التي ذكرتها لكم , والتي أضاءها الأخ أحمد غنيم في كتابه المذكور يتضح أن هذا الكلام لا صحة له على الإطلاق ولا يعدو كونه نوعا من المماحكات التي اعتدنا عليها في الساحة الفلسطينية.
وإذا:
فنحن نجد أنفسنا في ذكرى قرار التقسيم أمام ملف لم يغلق, وغير قابل للإغلاق لأنه جوهر القضية!! ولهذا ربما نرى هذه الهستيريا التي تسيطر على أعضاء الائتلاف الإسرائيلي الحاكم, الذي يتخذ شكل السباق المحموم مع الزمن لإنهاء وجود القضية كما يتوهمون من خلال التسارع المجنون في الاستيطان , ومن خلال نفي لإمكانيات إقامة الدولة الفلسطينية, لأن قيام الدولة يعني أولا إعادة طرح جميع الأسئلة المسكوت عنها وإحياء الذاكرة المتعلقة بحقوق الفلسطينيين غير القابلة للتصرف أو التقادم أو النسيان .
إسرائيل كما يعرف المتابعون كانت دائما مسكونة في الأعماق بالخوف من إمكانية احتشاد الظروف الموضوعية لإحياء الكيانية الفلسطينية , فهذا هو خوفها الأكبر وهذا هو هاجسها الأكبر, وعندما ظهرت أولى البوادر لإحياء الكيانية الفلسطينية ولو معنويا من خلال منظمة التحرير الفلسطينية عام 64, وانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة مطلع عام 65, فإنها أي إسرائيل استغلت كل الظروف لتشن عدوانها الواسع النطاق في عام 67, ذلك العدوان الذي أثبتت الوثائق في ما بعد أنه لم يكن له علاقة بالذرائع التي ذكرت وقتها , وإنما كان هدفه وجوهره وهاجسه الأول توجيه ضربة لبدايات فكرة إحياء الكيانية الفلسطينية من خلال احتلال ما تبقى من أرض فلسطين ولؤلؤتها القدس الشريف .
و يعرف المتابعون أن إسرائيل وعلى امتداد العقود الأخيرة أن قادة إسرائيل الأوائل ومن أبرزهم مشى شالتوك أول وزير خارجية لإسرائيل بعد قيامها قد وضعوا إستراتيجية على أساس التعامل مع الأرض الفلسطينية بمفهوم الجغرافيا وليس بمفهوم الوطن , والتعامل مع الفلسطينيين بمفهوم السكان أو المقيمين وليس بمفهوم الشعب!.
ومنذ ذلك الوقت فإن التيار الرئيسي للشعب الفلسطيني يعتبر من خلال وعيه العميق بأن أي طرف محلي أو عربي أو إقليمي أو دولي يتساوق مع الإسرائيليين في هذه المفاهيم, إنما يعمل في خدمتهم ولمصلحتهم, لآن القضية المركزية لإسرائيل منذ قيامها , هو نفي مفهوم الوطن عن الأرض الفلسطينية , واعتبارها جغرافيا فقط غير محددة الهوية, ونفي مفهوم الشعب عن الفلسطينيين, واعتبارهم فقط مجموعات من السكان لديهم بعض المشاكل التي يمكن حلها ولكن لا شيء أكثر من ذلك.
في الربيع الفلسطيني المتجدد الذي أتى في حقب متعددة , بعد النكبة مباشرة حين ولدت الحركة الوطنية الفلسطينية في أوائل الخمسينيات لتمتص صدمة النكبة , وفي نهاية عام 58 حين أعلن عن ميلاد حركة فتح , وفي أيلول عام 64 حين تشكلت منظمة التحرير, وفي اليوم الأول من عام 65 حين انطلقت الثورة المعاصرة, وصولا إلى الانتفاضة الأولى وإعلان الاستقلال وقيام السلطة الوطنية واستحقاق أيلول الماضي, وكلها موجات متجددة للربيع الفلسطيني, وفي هذا الربيع الذي نعيشه الآن الذي بدأ مع استحقاق أيلول, فإن الأسئلة التي كان يظن الإسرائيليون أنها ماتت وانتهت إلى غير رجعة بدأت تطرح من جديد .
ولذلك نرى إسرائيل تستنفر كل أسلحتها وأدواتها ومخزون علاقاتها, تستنفر سلاح الانقسام الفلسطيني, وتهددنا بالويل والثبور إذا ذهبنا إلى المصالحة وأنجزناها !!! وتستنفر قدراتها المجنونة في الاستيطان وبرامج الاستيطان الواسعة وقدرتها في التهديد بالعدوان، ولكن كل ذلك يمكن أن يتحول إلى أسهم طائشة , إذا تشرنق الشعب الفلسطيني وقواه السياسية حول ثوابته, من خلال وعي جمعي واسع النطاق , ومن خلال وحدة وطنية لا يوجد فيها مكان للانقسام وذرائعه ورهاناته وأوهامه.
العالم كله, وبقرار أممي, يعتبر ذكرى التقسيم في التاسع والعشرين من تشرين الثاني كل عام, يوما للتضامن مع الشعب الفلسطيني, حيث يوجه الأمين العام للأمم المتحدة, رسالة تقرأ في كل مقرات الأمم المتحدة في العالم, لماذا?
للتأكيد على أن القرار لم يكتمل, لأن نصفه الفلسطيني لم يتحقق, وهو الدولة الفلسطينية, وأن العالم يتضامن مع الشعب الفلسطيني لتحقيق هذا الهدف, وانه بدون تحقيق قيام الدولة الفلسطينية فإن الأمن والسلم العالمي لا يكون مكتملاتحية للذكرى ,
تحية لكل الذين يفتحون لها الأبواب لكي تعبر الدولة الفلسطينية المستقلة إلى ميلادها الجديد
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها