يهمل معظم الناس العامل الأخلاقي في العمل. خذ مثلاً مسؤولاً في مؤسسة إعلامية طلب محررًا للأخبار، فجاءوا له بواحد، وقالوا له: إن هذا شخص محترم ولديه أخلاق جيدة جدًا، فرد عليهم: إنه لا يهتم لأخلاقه، بل لمهنيته، وبالطبع فهذا المسؤول مغفل لأن المعادلة واضحة، وأساس العمل هو الأخلاق، فالاحتراف يمكن أن يتأتى من خلال التدريب، وبناء المهارات، ولكن الأخلاق لا تأتي بالتدريب خاصة مع شخص بلغ سنًا يتيح له تحمل المسؤولية.

والأخلاق تتطور وتنضج منذ النشأة الأولى للإنسان، ويتحصل عليها بفعل ما طبع به وغرز فيه، ومن التربية الأسرية ومن التعليم، وحتى الوراثة التي توفر عناصر نضج أخلاقي، فإذا وصل الفرد إلى مرحلة عمرية وهو بلا أخلاق، أو حاول تهميش العامل الأخلاقي، وركز على الحرفة والعمل فلن ينجح، أو سينجح في جزء من العمل، لكن ستكون الصورة هكذا وكما سنوضح.

يمكن للصحفي، أو السياسي، أو الطبيب أن ينجح مهنيًا، غير أنه سيتحول حين يفقد الهامش الأخلاقي إلى شخص يمكنه تحقيق مكاسب مالية محرمة، أو ان يغدر بزملائه، أو ألا يعمل بصدق، فالصحفي حين يفتقد الأخلاق يكون عرضة للكذب والاحتيال والدونية، ويتحول إلى أداة رخيصة، والطبيب حين يفقد العامل الأخلاقي يحول المريض إلى سلعة، أو تجارة، فيتحالف مع صاحب الصيدلية لتصريف الدواء، ومع صاحب المختبر لإجراء تحليلات لا يحتاجها المريض، وهنا تنحرف الأمور عن مسارها الطبيعي، فلا تعود الأخلاق، ولا الإنسانية يملكان دورا في السلوك البشري الذي يطبعه خلق الغابة، وحينها ينهش القوي كما الضواري الضعيف، ولا يبقي منه سوى ما يستخدمه لدوام غروره ووحشيته.

عامل الأخلاق في السياسة مهم، ولا يعني أن يكتب شخص بارع مثل ميكافيلي كتابًا يضع قواعد السياسة وتدبير الحكم أن هذا العامل طارئ على السلوك البشري، وخذ مثلاً هذا البيت من الشعر والفلسفة التي يرمي إليها

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وهنا إشارة إلى السلوك البشري في كل ميدان، والحاجة إلى تغليب الخلق الحميد في إدارة الأمور، فلا الغدر ولا الخيانة ولا الكذب ولا التدليس ولا التضليل ولا كل خلق سيئ يعود نافعًا. لأن المسؤول، والذي يدير مؤسسة لا بد أن ينظر إلى حاجات الناس وضروراتهم، وألا يتعالى عليهم، ولا يصاب بالغرور، وألا يمارس الأفعال الدنيئة في التعاطي مع حاجاتهم، وألا يستغل منصبه لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المجموع العام من الناس لأنه سيكون فاسدًا وظالمًا، ويحرم الآخرين من حقوقهم مع أنه جاء باختيارهم، وبقاؤه ودوامه وزوال منصبه وحكمه بهم، وبإرادة غالبة منهم لا ترد ولا تقاوم، وإذا لم يغلب المسؤول الخلق القويم على الفاحش والدوني من السلوك فإنه سيقع في شر أعماله، والواجب هو أن يكون الفرد خلوقًا، وألا يتجاوز الحدود والقوانين التي يخضع لها الجميع، ومن غير المقبول الهيمنة على تلك القوانين وتحويلها إلى أدوات طيعة لتحقيق مكاسب سياسية ومنفعية تنفع واحدًا وتحرم الآلاف من الناس من حقوقهم الطبيعية.

لا يمكن ضمان عملية ممنهجة في بناء الدولة حين يتكالب الناس على السلطة والمكاسب، ويهملون الإنجاز، وتقديم الخدمات، وبناء المؤسسات، ووضع المسؤولين في مواضعهم الصحيحة، ومحاربة الفساد الذي يسبب الخراب، ومن المهم منع السيئين والنفعيين من التحكم بمصائر العامة. فهولاء خطر على الدولة التي تتحول الى مؤسسة ربحية خاصة ينتفع منها البعض، ويبتلي بدائها الجميع حتى الذين أفسدوا فيها، وقدموا مصالحهم عليها.