من أصعب الأشياء أن أتحدث عنك، كيف لا وأنا أبحث عنك في القصائد الثورية وفي ذاكرة الوطن؟ كيف لا وأنت رجلٌ أنيقٌ ككتابٍ، مرصّعٍ بالحروف والكلمات، مشبعٍ بالتاريخ، مكتظ بالعطايا كبيادر القمح، ومنغمسٌ بأحزان الوطن؟.
من أين أبدأ عنك رحلة كلامي؟ وأنت الكلام وكلّ الكلام، أيّها الأب والأخ والصديق والمعلّم الذي أمضى حياته من تواضعٍ إلى تواضعٍ، ومن النضال إلى النضال، ومن العطاء إلى العطاء. يا أيها الإنسان الطيب، والمعلم المخلص، ويا نبع العطاء والنهر المتدفق حباً لوطنك وشعبك، يعز علينا فراقك، في وقت نحتاج فيه إلى أمثالك من الرجال الأوفياء الصادقين.
مهما كتبنا من كلمات رثاء، وسطرنا من حروف حزينة باكية، لن نفيك حقك لما قدمته من دمٍ وعرقٍ وعقودٍ من النضالات والعذابات والتضحيات والعلم والوقت والجهد والتفاني في سبيلنا، فقد علمتنا الأخلاق والقيم الفاضلة، وغرست فينا حب العلم والمعرفة، ونميت في أعماقنا قيم العطاء والفداء والتضحية والمحبة والخير والانتماء.
عامٌ مضى على رحيلك، لكنك لم تفارقنا، فذكراك وسيرتك النضالية لا تزال حاضرة منذ أن صعدت روحك الطاهرة إلى بارئها. تركت بصماتك العميقة في قلوب الأحرار والمناضلين، وكنت القاسم المشترك بينهم، تدفع دائماً نحو أصالة العمل وتلاحمه مع فكرة فلسطين؛ فلسطين التي كنت تمجّدها وتعشقها، وتقول عنها: " هي ذاكرة الزمان، وزهرة الوجدان، وهي الحلم الذي لا بد أن يتحقق، تمتد من لحظة القرار إلى لحظة الانتصار، تمتد من لحظة الفكرة إلى لحظة الخطوة، تمتد من حافة السقوط في الوهم إلى حافة الوقوف في الواقع، فلسطين حبيبة العمر".
أبي أيها الرجل الذي لن يتكرر، تمر الأيام دون أن نلتقي كئيبةً تمزق أرواحنا، وتبقى استعادة الذكريات وتأمل صورك وكتاباتك والتسامر مع رفاق دربك الأوفياء، وهم يحدثوننا عن بطولاتٍ وملاحمٍ كنت أنت عنواناً فيها، كلها محاولاتٍ لترميم أرواحنا المشتاقة لروحك الطاهرة.
في الذكرى السنوية الأولى لرحيل والدي ومعلّمي، الفدائي المقاتل، والجريح، والأسير، والمبعد، اللواء، الوزير القائد الشهيد قدري أبو بكر، استرجع اليوم آخر اتصالٍ بيننا، الذي كان مليئاً بالكلمات الأخيرة التي لم أكن أعلم أنها ستكون وداعاً. أتذكر أيضاً آخر صورةٍ له، والتي توثق لحظة عظيمة من حياته الأخيرة، وأخيراً، استحضر آخر لقاء صحفي له، والذي كان بمثابة تجسيدٍ لإرثه الكبير ومساهماته العظيمة.
في ظهيرة يوم السبت، الأول من تموز/يوليو 2023، رابع أيام عيد الأضحى المبارك، كان اتصاله الأخير بي في تمام الساعة الواحدة وست وثلاثين دقيقة. أخبرني أنه خرج للتو من حفل لمعايدة أبناء وأحفاد الأسرى في مقر المقاطعة برام الله، وكان صوته مليئاً بالسعادة والفرح بهذا الحدث، طلب مني أن أرافقه في بعض الزيارات العائلية، لكنه عندما علم بأنني مشغول بأطروحة الدكتوراه، قال لي: "الدكتوراه أهم، لدي مشوار صغير وسنتقابل مساءً". لم أكن أعلم أن هذا "المشوار الصغير" كان لمعايدة رفيق دربه، الأسير المحرر المناضل الكبير عثمان مصلح "أبو الناجي" في بلدة الزاوية قضاء سلفيت، ولتقديم واجب العزاء أيضاً في إحدى بلدات المحافظة.
ذهب أبي ولم يعد، رحل عن عالمنا للأبد، تاركاً خلفه وجعاً وألماً عميقاً لا يمكن أن تتسع حروف اللغة لوصفه وكانت آخر وصاياه أن نستكمل مسيرتنا التعليمية. نعم، كان أبي، أبو فادي، شديد الحرص على تربيتنا أفضل تربية قوامها الاخلاق و الاحترام، وحب الوطن، والإيمان بأن أرضنا المغتصبة ستعود إلينا بالكفاح، وبالعلم، وبالعمل الدؤوب. كان يصّر على متابعة تحصيلنا العلمي و حصولنا على أعلى الشهادات، وكان يتابعنا يومياً حتى في خضمّ مشاغله، إيماناً منه بأن العائلة هي الأساس وموطن الانتماء الأول للإنسان. كانت أحاديثه اليومية معنا وتحفيزه الدائم لبذل المستحيل مصدر إلهامٍ لنا، فكان هو المثل الأعلى الذي اقتدينا به وسرنا على خطاه، وما زلنا نسير عليها حتى يومنا هذا.
أستذكر اليوم أيضاً الصورة الأخيرة لوالدي من مقر الرئاسة خلال احتفالية أبناء الأسرى الأطفال، حيث كان برفقة الشبل مجد، ابن الأسير البطل عبد الكريم الريماوي. في هذه الصورة، اختتم أبو فادي مسيرة نضالاته برسم البسمة على وجوه أطفالٍ لن يمحو أثرها تعاقب السنين، وكانت الصورة بمثابة رسالةٍ ختامية وتجسيدٍ لمقولته: "هنا وفي دمنا، في دم الأطفال يسري حب فلسطين، هنا فلسطين ولن يكون شيء غيرها".
أما اللقاء الصحفي الأخير فقد كان مع إذاعة "صوت فلسطين" قبل أيامٍ معدودة من رحيله، حيث تناول فيه آخر مستجدات قضية الأسير المريض حينها وليد دقة، بالإضافة إلى أوضاع الأسرى المرضى والاداريين في سجون ومعتقلات الاحتلال. رحل أبي ومن بعده رحل القائد الوطني المفكر الشهيد وليد دقة، وثمانية عشر قمراً من أقمار الحركة الأسيرة، كان آخرهم الشهيد الشيخ مصطفى أبو عرة، كل ذلك جرى وسط جرائم لا يتخيّلها العقل البشري وإجراءات غير مسبوقة منذ بدء حرب الإبادة على قطاع غزة وكافة الأراضي الفلسطينية المستهدفة، التي أوقعت عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين.
فارقتنا يا أبا فادي، وكم هو فراق يدمي القلب والعين والفؤاد، لكنها إرادة الله التي شاءت أن تأخذك قبل أن تشهد الإبادة الكبرى. رحلت قبل أن ترى ما حدث في غزة، الأرض التي تجاهلها العالم، أتمنى أن تكون قد رحلت قبل أن تصل إلى مسامعك صرخات أطفالنا ونسائنا في قطاع غزة وآهات أسيراتنا وأسرانا التي لا تجد من يجيبها. رحلت قبل كل ذلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
لكننا، يا أبا فادي، ورغم الجرح النازف وألم الوطن المكلوم، نقسم أن نبقى منزرعين في أرضنا، متشبثين بالأمل، نردد قولك: "لا يزال في يقين كل واحد منا أن هذا الشعب الذي غمر نفسه بكل طاقاته في صلب الصراع الدامي، يتجدد كل يوم بعزم ورجال، ويتحقق معه انتصارات كثيرة تضيء نوافذ الأمل، وعلى هديها نصل إلى الانتصار الكبير".
أعلنت المؤسسات المعنية بشؤون الأسرى قبل أيام من إحياء الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد اللواء قدري أبو بكر عن تنظيم يوم عالمي لنصرة غزة والأسرى، في الثالث من آب/أغسطس 2024. ودعت جميع الأطر المنظمة في فلسطين، بما في ذلك الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948، إضافةً إلى كل داعمي فلسطين في العالم والشعوب العربية، للمشاركة الفعّالة في هذا اليوم.
وفي هذه المناسبة، نؤكد أن الواجب الإنساني والأخلاقي والوطني يفرض علينا جميعاً، بغض النظر عن أعمارنا وألواننا ومشاربنا، أن نتوحّد ونتكاتف في هذا اليوم، رفضاً لجرائم الاحتلال وممارساته في غزة والمعتقلات. لنجعل من هذا اليوم لحظة فارقة تُفشل مخططات الاحتلال الاستعمارية ورهانه على التعايش الدولي مع الإبادة، ونؤسس لمرحلة جديدة من العمل الوطني، عملاً بالقاعدة الذهبية للشهيد قدري أبو بكر التي تقول: "عندما تتحمل الجماهير مسؤولياتها الجماعية للقضية المقدسة، يتحقق النصر".
قال تعالى: "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۗ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنتَظِرُ ۗ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا" صدق الله العظيم.
لك وللشهداء الرحمة والمجد والخلود، ولنا نحن طول الصبر والسلوان، وعزاؤنا يا أبي أنَّنا سنبقى دوماً أبناء الشهيد قدري أبو بكر.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها