ثلاثة مركبات، لكل منها أهدافه الخاصة، تدخل في تشكيل حكومة اليمين الخالص في دولة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو منذ نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول من العام 2022 (إذا استثنينا فترة مشاركة حزب المعسكر الرسمي برئاسة بني غانتس): اليمين اليهودي القومي العلماني (حزب الليكود) واليمين اليهودي الديني الحريدي (ثلاثة أحزاب) واليمين اليهودي القومي الديني (حزبان). وإذا أخذنا بالاعتبار الأهداف الرئيسة لكل منها لتوصلنا مباشرة إلى استنتاج أن درجة التداني والتماسك بينها تفوق بكثير درجة التباعد والتنافر. وكما علمتنا التجربة خلال الشهور الـ18 الماضية، فإن الحرب على قطاع غزة تغذّي ذلك التماسك وتقوّيه. وكلما ازدادت الوطأة التدميرية والدموية لتلك الحرب ازداد ذلك التماسك قوة. وفي المقابل، يكاد الخبراء والمحللون السياسيون يجمعون على أن الوقف الدائم للحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزّة والمباشرة بإعادة الإعمار ينذر بانفراط العقد وبنهاية عهد حكومة اليمين الخالص، وبالتالي نهاية الحياة السياسية لرئيسها (ربما أكثرمن ذلك). فما الذي تريده حقاً أحزاب كل من هذه المركبات؟.

يكاد المحللون السياسيون يجمعون على أن الوقف الدائم للحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزّة والمباشرة بإعادة الإعمار ينذر بنهاية عهد حكومة اليمين الخالص.

ما تريده الأحزاب الدينية الحريدية الثلاثة يتلخص بالتالي: مخصّصات مالية سخية لمدارسها الدينية الخاصة وروادها، وإعفاءات جارفة من الخدمة العسكرية لشبّانها وشاباتها، وكما كان عليه الحال في العقود الكثيرة الماضية. وحكومة اليمين الخالص ونوابها في البرلمان يقبلون بذلك، رغم تحفظ حزبي الصهيونية الدينية على شرط الإعفاء الجارف من الخدمة العسكريّة، خاصة في زمن الحرب على قطاع غزّة وبقية ساحات القتال الفاعلة. أما وزراء ونواب حزبي الصهيونية الدينية فمرادهم الأساس، بعد إحباط مشروع الدولة الفلسطينية، ضم ما أمكن من الأراضي الفلسطينية في قطاع غزّة والضفة الغربية. وعلى طريق الضم المشتهى، يسعون إلى مصادرة مزيدٍ من الأراضي وتكثيف الاستيطان في الضفة الغربية ومحاصرة السلطة الوطنية الفلسطينية مالياً وإداريًا وتنكيد حياة الفلسطينيين في المناطق المحتلّة. وعلى مستوى الحرب على غزّة، هم تواقون إلى مواصلة القتال وتهجير السكان الأصلانيين وزرع المستوطنات والمستوطنين هناك. وما يريده حزب الليكود ورئيسه، رئيس الوزراء، لا يختلف سوى بالدرجة والوتيرة عن مُراد حزبي الصهيونية الدينية. وهذا الاختلاف بالدرجة والوتيرة مردّه ضرورة مراعاة مواقف (ومصالح) الأخ الأكبر الذي يسكن في البيت الأبيض، الأخ الأكبر الداعم والحامي والدليل.

وليس خافياً أن جميع الأحزاب المشاركة في حكومة اليمين الخالص عازمة، كلٌّ لأسبابه، على تقويض ركائز السلطة القضائية في الدولة العبرية، فالأحزاب الدينية الحريدية تريد، من بين أشياء أخرى، الإفلات من تجنيد شبانها وشاباتها، من دون التنازل عن امتيازاتها المالية وغير المالية؛ وحزبا الصهيونية الدينية حريصان على الإفلات من المراقبة والمساءلة القانونية على التجاوزات في مجال التعيينات للمناصب العليا، كما على ممارساتٍ غير قانونيةٍ ذات علاقة بالاستيطان وعنف المستوطنين وإساءة معاملة السجناء والموقوفين الفلسطينيين. ورئيس الحكومة، رئيس حزب الليكود، عازمٌ على الإفلات من تبعات المحاكمة بتهم الفساد والرشوة وخيانة الأمانة، كما من المحاسبة السياسية على دوره ومسؤوليته في إخفاق 7 أكتوبر (2023). وبما أن جميع الأحزاب التي تشارك في حكومة اليمين الخالص هي أيضاً محافظة، فليس من باب المصادفة أن تنقض جميعها على الجناح الليبرالي من نظام الحكم في الدولة بعامة، وعلى المحكمة العليا بخاصة، كونها حامية وحاضنة لذلك الجناح وما ينضوي تحته وينساب عنه من التزامات قانونيّة، تهدف بالأساس إلى حماية المواطن، حقوقه وحرّياته، من تغوّل السلطة التنفيذية الحاكمة وتعسّفها.

المظاهرات الاحتجاجية داخل دولة إسرائيل اليهودية وخارجها تظل قاصرةً عن إرغام حكومة اليمين الخالص على دفع الثمن اللازم لاستعادة جميع الرهائن، الأحياء والأموات.

المركبات الثلاثة لحكومة اليمين الخالص متماسكةٌ بما فيه الكفاية، رغم التوترات حول هذا الشأن أو ذاك. والحرب الوحشية على قطاع غزّة وعلى ساحات القتال الفاعلة، ومن ضمنها مخيّمات شمال الضفة الغربية، تزيدها تماسكاً. وفي المقابل، يُنذر الوقف الدائم للحرب والانسحاب من كامل قطاع غزّة بانهيارها. هذا ما يفهمه جيداً أعضاء الحكومة وأنصارهم في البرلمان وخارج أروقته، وهذا ما يفهمه جيداً زعماء المعارضة السياسية والأمنية وأهالي الرهائن وأنصارهم. تريد هذه الحكومة، بالطبع، استعادة الرهائن، الأحياء منهم والأموات، ولكنها غير مستعدّة لدفع الثمن المعروف مقابل ذلك. وإذا كان الأمر كذلك، فإن ما تريده حقاً لا يتعدّى صفقة تبادل جزئيّة، دسمة قدر الإمكان، مقترنةً بوقف مؤقت لإطلاق النار وإعادة انتشار محدود للقوات الغازية. ومن يعتقد خلاف ذلك فهو مضلّل (بفتح اللام أو بكسرها). ومضلَّل (بفتح اللام) كل من يعتقد أن استعادة جميع الرهائن (المحتجزين أو المختطفين، كما اتفق على تسميتهم في إسرائيل اليهودية) تحتلّ المرتبة الأولى أو حتى الثانية على سلم أولويات حكومة اليمين الخالص ورئيسها. وهذا ما يعرفه اليوم الداني قبل القاصي، تماماً كما يعرفه أهالي المحتجزين قبل غيرهم من المواطنين والأغيار.

ولكن ما قيل في الفقرة أعلاه لا يعني بالضرورة أن الطرق كلها لوقف الحرب والانسحاب من كامل قطاع غزّة مسدودة ومحكمة الإغلاق، فتحرير المحتجزين المرهون بإيقاف الحرب والانسحاب والمباشرة بإعادة إعمار القطاع يحدث، إذا حدث، بأحد الطريقين التاليين أو بكليهما معاً: ضغط شعبي وقانوني داخلي لا يقاوم أو/وأمر أميركي جازم ومُطاع. أما بيانات الشجب والاستنكار من هذه الدول أو تلك وتقارير الهيئات الحقوقية وقرارات المحافل والمحاكم الدولية، على أهميتها، تظل قاصرة عن وقف تلك الحرب وتحقيق ذلك الانسحاب والمباشرة بإعادة الإعمار. وتجربة الشهور الـ18 الماضية خير دليل على ذلك. كما أن المظاهرات الاحتجاجية داخل دولة إسرائيل اليهودية وخارجها تظل قاصرةً عن إرغام حكومة اليمين الخالص على دفع الثمن اللازم لاستعادة جميع المحتجزين، الأحياء والأموات. وأخيراً، وهنا بيت القصيد، من يريد حقّاً وقف هذه الحرب المدمرة، حرب الإبادة للإنسان والمكان والبنيان الفلسطيني، فمن واجبه الصارم أن يعمل جاهداً لزيادة الضغط الشعبي والقانوني الداخلي وإلى الحد اللازم لإسقاط حكومة اليمين الخالص أو إرغامها على دفع الثمن المعروف، أو/ولزيادة الضغط من الخارج على الإدارة الأميركية ورئيسها لغرض التسريع بإصدار ذلك الأمر الجازم والمطاع. وبدون ذلك، يظلّ الصوت المنادي بالوقف الدائم للحرب مقابل استعادة المحتجزين صراخاً ضائعاً في البراري.